فجوة عمرية قد تُعيد رسم خريطة الثقة بين سيارات البنزين والكهرباء

في عالمٍ تتسارع فيه التحولات التكنولوجية أسرع من قدرة الأسواق على التكيّف، تكشف البيانات أن السيارات الكهربائية رغم وهجها الابتكاري، لم تبلغ بعد عمر الثقة الطويل. الأرقام تعيد طرح سؤال جوهري: هل يقيس المستهلك القيمة بالكفاءة، أم بالزمن الذي تصمد فيه الآلة؟

  • S&P Global Mobility
    S&P Global Mobility

أثير ضجيج واسع حول مستقبل السيارات الكهربائية واعتبارها محور التحوّل العالمي نحو الطاقة النظيفة، إلا أن دراسة جديدة أظهرت أن هذا المستقبل ليس بالضرورة طويل الأمد كما يُصوَّر.

فبينما يُفترض أن المركبات الكهربائية تمثل "ثورة الديمومة"، تكشف البيانات أن عمرها الافتراضي لا يزال أقصر بكثير من نظيراتها التي تعمل بالبنزين، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول واقع الاستدامة وسلوك المستهلكين تجاه هذه التقنية الناشئة.

فجوة في العمر الافتراضي.. وثقة قديمة بمحركات البنزين

و وفقاً لتقرير  صادر عن S&P Global Mobility، فإن متوسط عمر السيارات العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي في الولايات المتحدة يبلغ نحو 12 إلى 13 عاماً، في حين لا يتجاوز عمر السيارات الكهربائية 3.6 أعوام في المتوسط.

هذه الفجوة الشاسعة لا يمكن اختزالها في الجانب التقني فحسب، بل تمتد إلى العوامل الاقتصادية والنفسية والسوقية التي تحدد سلوك المستهلكين.

منذ الأزمة المالية عام 2008، يتزايد متوسط عمر المركبات على الطرق الأميركية بشكل مطّرد، ليصل اليوم إلى 13.6 عاماً، وهو رقم يعكس ثقة المستهلكين الكبيرة في متانة محركات البنزين والديزل.

فالسيارات التقليدية لم تعد مجرد وسيلة نقل، بل أصبحت أصولاً استهلاكية يُستثمر فيها طويلاً، خصوصاً في ظل الارتفاع المتواصل في أسعار السيارات الجديدة وصعوبة التمويل.

وفي المقابل، تبدو السيارات الكهربائية أقصر عمراً وأكثر عرضة للاستبدال، ليس لأنها "تتعطل أسرع"، بل لأن الابتكار التقني المتسارع يجعلها قديمة خلال عامين أو ثلاثة فقط. إذ تسعى شركات مثل تسلا (Tesla) وBYD وLucid إلى طرح نسخ جديدة بوتيرة سنوية تقريباً، ما يخلق ديناميكية تشبه تلك التي نراها في سوق الهواتف الذكية: الجيل الجديد دائمًا أكثر إغراءً، والقديم يُعتبر فجأة "خارج الموضة".

اقتصاد متحوّل وسلوك استهلاكي متقلب

تُظهر بيانات S&P أن نحو 6.6% من السيارات الكهربائية المسجَّلة بين عامي 2013 و2022 خرجت من الخدمة أو تم "تقاعدها"، مقارنة بنسبة 5.2% فقط في السيارات العاملة بالبنزين في الفترة نفسها.

هذه النسبة ليست ضخمة رقمياً، لكنها كافية لتشير إلى دورة حياة أقصر للمركبات الكهربائية، ما يعني أن المستهلكين لا يحتفظون بها لفترات طويلة، إما بسبب الرغبة في تحديث التقنية، أو بسبب الشكوك المتعلقة ببطاريات الليثيوم وسرعة تدهور أدائها مع الزمن.

ويلعب العامل الاقتصادي دوراً أساسياً في هذه المعادلة. فمع تضخم الأسعار وارتفاع تكلفة السيارات الجديدة، يتجه كثير من الأسر إلى تأجيل الشراء أو الحفاظ على سياراتهم القديمة أطول فترة ممكنة. غير أن هذا الاتجاه ينعكس بشكلٍ معاكس في عالم السيارات الكهربائية، حيث لا يزال السوق في طور التكوين، والمستهلكون فيه يميلون إلى التبديل والتجريب أكثر مما يميلون إلى الاستقرار.

ويشرح خبراء الاقتصاد السلوكي هذه الظاهرة بأن "الثقة" في التكنولوجيا لا تُبنى إلا بعد مرور جيلٍ كامل من المستخدمين الذين يجربونها ويعرفون حدودها. السيارات الكهربائية لم تبلغ هذه المرحلة بعد، فهي لا تزال في مرحلة "الاكتشاف"، حيث تُعتبر كل تجربة شرائية بمثابة اختبار، وليس التزاماً طويل الأمد.

التكنولوجيا لا تُعَمِّر بالضرورة

تبدو المفارقة حادة: فالتقنية التي يُفترض أن تجعل السيارة أكثر كفاءة واستدامة، تخلق في الواقع منتجاً أقصر عمراً على الطرق. السبب في ذلك أن الابتكار المتسارع يدفع الشركات إلى تقصير دورة حياة المنتج عمداً، ما يُعرف بـ"التقادم المبرمج" (Planned Obsolescence)، أي بناء منتجات مصممة لتُستبدل بسرعة، لضمان استمرار عجلة المبيعات.

لكنّ دراسة أخرى حديثة، نُشرت في مجلة Nature، تقلب الصورة رأساً على عقب. فالبحث الذي أجراه فريق دولي من جامعات برمنغهام وكلية لندن للاقتصاد وكاليفورنيا سان دييغو وبرن السويسرية، أظهر أن السيارات الكهربائية قد تمتلك في الواقع عمرًا مماثلًا أو أطول من سيارات البنزين، إذا استُبعدت المركبات التي خرجت من الخدمة في سنواتها الأولى بسبب الحوادث وليس الأعطال.

عند تحليل أكثر من 300 مليون سجل فحص (MOT) في بريطانيا، تبين أن متوسط عمر السيارة الكهربائية يبلغ 18.4 عاماً، مقارنة بـ 18.7 عاماً للسيارات العاملة بالبنزين و16.8 عاماً للديزل.

أي أن الفارق الحقيقي في المتانة لا يتعدى بضعة أشهر، بل إن السيارات الكهربائية تقطع في حياتها الافتراضية أميالاً أكثر (124,000 ميل مقابل 116,000)، ما يدل على كفاءة تشغيلية أعلى.

الفجوة بين السوق والبيانات

إذاً، كيف يمكن أن تتباين الأرقام بين تقارير السوق والدراسات الأكاديمية بهذا الشكل؟

الإجابة تكمن في زاويتين مختلفتين للنظر:

·        التقارير السوقية (مثل S&P) تقيس مدة الاحتفاظ بالسيارة من قِبل المالكين.

·        الدراسات الأكاديمية (مثل Nature) تقيس العمر الميكانيكي والفعلي للمركبة.

بمعنى آخر، المستهلكون لا يحتفظون بالسيارات الكهربائية طويلاً، لكن ذلك لا يعني أنها لا تعيش طويلاً. فالكثير من هذه المركبات تُباع في سوق السيارات المستعملة بعد بضع سنوات، خصوصاً في أوروبا والمملكة المتحدة، حيث شهدت مبيعات السيارات الكهربائية المستعملة ارتفاعاً بنسبة 52.6% في الربع الثاني من عام 2024 وحده، وفق بيانات جمعية مصنعي وتجار السيارات (SMMT).

هذه الأرقام توحي بأن السيارات الكهربائية لم تُستهلك بالكامل، بل تمرّ بإعادة تدوير في السوق، ما يعني أن دورة حياتها الاقتصادية أقصر، بينما عمرها الفني أطول.

تكنولوجيا البطاريات والاختبار الحقيقي للديمومة

أكبر عنصر في معادلة العمر الافتراضي للسيارات الكهربائية هو البطارية. فهي ليست فقط أغلى مكوّنات السيارة، بل أكثرها عرضة للتدهور مع مرور الزمن.

إلا أن التحسينات السريعة في كيمياء البطاريات، مثل الانتقال إلى بطاريات الليثيوم فوسفات الحديد (LFP)، حسّنت من معدلات المتانة بنسبة كبيرة. فوفقاً لدراسة منشورة عام 2024، فإن البطاريات الحديثة تحتفظ بـ أكثر من 80% من سعتها الأصلية بعد مرور 200,000 كيلومتر، وهي نسبة تفوق التوقعات القديمة التي كانت تشير إلى تراجع حاد بعد 100,000 كيلومتر فقط.

كما أن التطورات في أنظمة إدارة البطاريات (Battery Management Systems) خفّضت من احتمالية الفشل المفاجئ أو الانهيار الحراري بنسبة تزيد على 40% خلال العقد الأخير، مما يعزز موثوقية المركبات الكهربائية على المدى الطويل.

لكن تود كامباو نفسه — الذي يقود قسم البيانات في S&P Global Mobility — يشير إلى نقطة دقيقة في هذا السياق:

"العمر الميكانيكي للمركبة لا يعني بالضرورة ديمومتها الاقتصادية. فالتكنولوجيا تتغير بسرعة تجعل الطراز الأقدم يفقد قيمته السوقية قبل أن يفقد قدرته التشغيلية."

بعبارة أخرى، التحدي ليس في "عمر السيارة"، بل في "قيمة السيارة" في سوق دائم التحديث.

التحوّل الكهربائي… بين الأمل والواقع

في ظل هذه المعطيات، يمكن القول إن "التحوّل الكهربائي" لا يعني بالضرورة "الاستدامة" أو "الدوام". فالسيارة الكهربائية اليوم جزء من صناعة تكنولوجية أكثر منها صناعة ميكانيكية.

وفي حين تتقدم الشركات بخطى متسارعة نحو تحسين المدى والكفاءة، فإنها تزرع في الوقت نفسه سلوكاً استهلاكياً قائماً على التحديث السريع، لا يختلف عن سلوك مستخدمي الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة.

غير أن السوق يشهد بوادر نضوج تدريجي. فمع تزايد انتشار السيارات الكهربائية، وظهور أسواق قوية للمركبات المستعملة، وارتفاع تكلفة الإنتاج، قد تتراجع وتيرة "التقادم السريع"، وتتحوّل الشركات إلى نماذج أكثر استدامة في التصميم والصيانة، شبيهة بما فعلته صناعة السيارات التقليدية في منتصف القرن العشرين.

الطريق الطويل نحو النضوج

تُظهر الأرقام أن العالم يقف أمام مفارقة مثيرة:

التقنية التي وُلدت باسم "الاستدامة" لا تزال عالقة في دورة استهلاكية سريعة، لكنها تمتلك من الناحية الهندسية كل مقومات البقاء الطويل. ومع تراكم الخبرة والبيانات، من المتوقع أن يتقارب متوسط عمر السيارات الكهربائية مع سيارات البنزين خلال أقل من عقد.

لكنّ المسألة لا تتعلق بالعُمر وحده، بل بالفلسفة التي تحكم صناعة السيارات في عصر الكهرباء — فلسفة الانتقال من "ملكية طويلة المدى" إلى "تجربة تقنية متجددة".

وبينما يسعى المصنعون والمستهلكون لتحديد توازنٍ جديد بين الكفاءة والدوام، يبقى المؤكد أن التحوّل الكهربائي لا يعني الديمومة بعد — على الأقل، ليس قبل أن تنضج التكنولوجيا وتستقر علاقتها بالسوق والمستهلكين على إيقاعٍ أكثر هدوءاً وأقل ضجيجاً.

اقرأ أيضاً: دراسة صادمة: السيارات الكهربائية تلوّث البيئة أكثر من الوقود

اخترنا لك