لمسة "برايل" غيّرت المشهد على واجهة بيروت البحرية
كيف يمكن لمجتمع أن يقيس عدالته أمام صخرة الروشة؟ لمَس المكفوفون التاريخ بأصابعهم، وتفاعلوا مع الثقافة مباشرة. لحظة صغيرة لكنها قوية كشفت أنّ التغيير الاجتماعي يبدأ بتجربة فردية ملموسة، وأنّ الجميع ليس رفاهية، بل هو اختبار حقيقي للشمول والمساواة.
-
لوحة "البرايل" على صخرة الروشة (تصوير: خالد عياد - غرافيك: ندين بدر الدين)
على واجهة بيروت البحرية، أمام صخرة الروشة، لم تكن المشهدية فقط حول لوحة توجيهية تثقيفية. كانت شيئاً أكثر من ذلك: لوحة يمكن للمكفوفين لمسها، قراءة المعلومات عليها، وفهم شكل الصخرة للمرة الأولى.
ما حدث هنا أنّ اللحظات الصغيرة هي التي تصنع فرقاً كبيراً. هذه المبادرة، رغم بساطتها الظاهرية، بدأت تحوّل مفهوم الدمج الاجتماعي في لبنان. إذ إنّ لمسة صغيرة على لوحة واحدة يمكن أن تصبح مفتاحاً لتغيير شامل في كيفية إدراك المجتمع للأشخاص ذوي الحالات الخاصة.
مع لحظات وقوف المؤسسين والمتطوّعين والمكفوفين أمام لوحة الروشة، بدأ المشهد يتغيّر. هنا، لم يكن التعليم مجرد كلمات على ورق، بل كان تجربة حسّية ملموسة: "البرايل" (هو نظام كتابة وقراءة ملموس يتكوّن من نقاط بارزة تُستخدم من قبل المكفوفين وضعاف البصر للقراءة باللمس، ويتيح لهم الوصول إلى المعلومات والتعبير عن أنفسهم بشكل مستقل. اخترعه لويس برايل في عام 1824، ويتكوّن من خلايا سداسية النقاط لتمثيل الحروف والأرقام والرموز)، النقش، الصورة النافرة، وسرب الحمام المحفور.
الدمج واقع محسوس
هذه التفاصيل الصغيرة تمنح تجربة التعلّم معنى جديداً، وتوضح أنّ التغيير الاجتماعي يبدأ بالتجربة الشخصية المباشرة، وليس بمجرد الوعود النظرية. إنها لحظة ملموسة تجعل الدمج واقعاً محسوساً، وليس شعاراً.
View this post on Instagram
لكنّ السحر الحقيقي لم يكن في الكلمات فقط، بل في القدرة الجديدة التي مُنحت للأشخاص المكفوفين: أن يتحسّسوا الصخرة بأصابعهم، وأن "يروا" بأيديهم ما لم يُتح لهم من قبل.
"جمعية عشتار تقيم نشاطاً اجتماعياً توعوياً يتضمن كتابة بلغة البرايل على لوحة كبيرة، ليتمكن المكفوفون من قراءتها والتعرّف على محتواها الذي يتناول منطقة الروشة وصخرتها الشهيرة."
— الميادين لبنان (@mayadeenlebanon) September 30, 2025
مراسل #الميادين سامي جلول #الميادين_لبنان #اللبنانية pic.twitter.com/PexK1GkhwF
هنا تبدأ قصة صغيرة – قد تبدو عابرة – لكنها تكشف عن تحوّل أكبر في نظرتنا إلى العدالة الاجتماعية، وإلى معنى أن يكون المجتمع "دامجاً".
نقطة الانطلاق: من التجربة السلبية إلى الفكرة
تقول هلا منصور، مؤسسة ورئيسة "جمعية عشتار لتطوير الثقافة الدامجة" لـ "الميادين نت": "من خلال خبرتنا في الإرشاد السياحي والآثار، رافقنا كثيراً من الناس الذين واجهوا تجارب سلبية في الوصول إلى المتاحف والمواقع الثقافية. ببساطة، لم يكن هناك وعي كافٍ بقدرات مختلفة للناس".
-
خلال فعّالية تثبيت لوحة "البرايل" ومجسّم حمامة السلام في صخرة الروشة (الصورة: خالد عياد)
هذه الجملة تختصر بذرة التحوّل. في لبنان، كما في كثير من الدول العربية، لم يكن الوصول إلى الثقافة متاحاً للجميع. المتاحف غير مهيّأة، المواقع الأثرية غير مجهّزة، المعلومات تكتب بلغة واحدة موجّهة فقط إلى المبصرين.
لكن هنا، قرّرت الجمعية أن تبدأ من مكان رمزي: صخرة الروشة. لماذا الروشة؟ لأنها أيقونة بيروت، صورة على البطاقات البريدية التي تمثّل المدينة، رمز للسياحة. إذا تمكّن المكفوف من لمس الروشة "المحفورة" على لوحة، فإنه يشارك الجميع في لحظة هوية وطنية مشتركة.
View this post on Instagram
التفاصيل الصغيرة التي تصنع فرقاً كبيراً
من الأمور التي تميّز هذه المبادرة التركيز على التفاصيل الحسية:
· نقش بارز لصخرة الروشة يمكن للمكفوفين تحسسه بأيديهم.
· معلومات مكتوبة باللغتين العربية والإنكليزية، وبطريقة "برايل" مزدوجة.
· إضافة فنية: سرب من الحمام محفور حول الصخرة، ليضيف بُعداً رمزياً وجمالياً.
هذه التفاصيل البسيطة صنعت فارقاً هائلاً.. عامر مكارم رئيس جمعية الشبيبة للمكفوفين أحد المشاركين المكفوفين، وهو الذي قرأ كلمات "البرايل" أمام الحضور، قال بجملةٍ معبّرة: "لأول مرة أستطيع رؤية شكل صخرة الروشة".
-
مكارم يقرأ بلغة "البرايل"
وبالفعل، فإنّ هذه الجملة بحدّ ذاتها تمثّل لحظة التحوّل: من معرفة بالاسم فقط، إلى تجربة حسية ملموسة.
التحدّي الأكبر: ليس التقنية بل اللامبالاة
من السهل الاعتقاد أنّ العقبة في مشاريع كهذه هي التقنية. كيف نحوّل صخرة إلى نقش ملموس؟ كيف نضمن دقة "البرايل"؟ لكنّ المفاجأة أنّ التحدّي الأكبر لم يكن هنا.
هلا منصور ونائب رئيسة الجمعية دانا نصار تؤكدان: "أن الأفكار موجودة، الخبراء متوفرون، التقنيات قادرة. ما ينقصنا فعلاً هو التمويل، والأهم: مشاركة القطاع العام، الذي غالباً ما يُظهر عدم مبالاة واضحة".
View this post on Instagram
بكلمات أخرى، الحواجز ليست طبيعية أو تقنية، بل بيروقراطية وثقافية. اللامبالاة الرسمية هي الحائط الأكبر أمام الدمج.
شارل نصّار: حمامة من شظايا الحروب
وهنا يدخل على المشهد المهندس والفنان شارل نصار، مؤسس "متحف الشظايا والحديد" في بلدة رمحالا - جبل لبنان، دوره لم يكن مجرّد دعم تقني، بل كان رمزياً أيضاً. قدّم لوحة فنية مرافقة – حمامة سلام صُنعت من شظايا حرب.
قال نصّار لنا: "أنا أشتغل منذ زمن بشظايا الحرب… الشظية مؤذية، تجرح، لكنها أيضاً تعطي شكلاً فنياً ملموساً! الفن مثل الماء الراكد: يتعفّن. أما إذا تركته يمشي، فهو يروي الأرض ويعطي زهراً".
-
شرح حول مجسّم "حمامة السلام"
هذا البُعد يضيف طبقة جديدة إلى المبادرة: ليست دمجاً اجتماعياً فقط، بل أيضاً تحويل الألم إلى فن، والدمار إلى سلام. إن وضع حمامة صنعتها من أدوات الحرب إلى جانب صخرة الروشة بلغة "برايل"، يخلق مشهداً يتجاوز الدعم التقني إلى خطاب رمزي عن المصالحة.
ما ميّز النشاط أنه لم يكن موجّهاً للمكفوفين فقط. كان دامجاً حتى في طريقة تنظيمه. المتطوّعون وقفوا جنباً إلى جنب مع المكفوفين، يساعدونهم، يقرأون معهم، يتبادلون الانطباعات.
هذا المشهد نفسه يختصر معنى الدمج: ليس أن نصنع "زاوية خاصة" لذوي الحاجات الخاصة، بل أن نخلق مساحة مشتركة يعيش فيها الجميع التجربة نفسها.
-
مجسّم من بقايا قنبلة - تصميم شارل نصّار قرب لوحة "البرايل"
نموذج قابل للتكرار
منصور ونصّار توضحان للميادين نت: "اللوحة ليست مجرد وسيلة إرشادية، بل رسالة. تغيير بسيط في التصميم يمكن أن يشمل الجميع. النموذج قابل للتكرار في أي موقع ثقافي أو أثري أو طبيعي".
وهذا هو جوهر القصة: البداية من الروشة قد تفتح الباب لمشروع أوسع يشمل متاحف، مدارس، مواقع أثرية، وحتى شوارع المدن.
إنّ "نقطة التحوّل"، في هذه الخطوة قد تكون الشرارة التي تؤدي إلى سلسلة مبادرات مشابهة، لأنّ الأثر العاطفي كبير، والتكلفة معقولة، والقيمة المجتمعية واضحة.
المبادرة ليست ترفاً
من أبرز ما قيل في النشاط:"هذه التجربة أتاحـت للمكفوفين تواصلاً مباشراً مع معلم بارز كانوا يعرفونه بالاسم فقط".
هذا الردّ يلخّص لماذا المبادرة ليست ترفاً. إنها تعطي إحساساً بالعدل. العدل هنا ليس سياسياً أو قضائياً، بل ثقافياً ومعرفياً: الحق في الوصول إلى المعلومات، إلى الجمال، إلى التراث.
حين نضع هذه المبادرة في سياق أوسع، نراها جزءاً من حركة عالمية. في الغرب، باتت المتاحف الكبرى مثل "اللوفر" ومتحف "المتروبوليتان" تتيح جولات خاصة للمكفوفين. لكن في لبنان، هذه الخطوات لا تزال نادرة.
-
اللوحة تواجه الصخرة
ما فعلته "جمعية عشتار" هو كسر الجدار النفسي الأول: إثبات أن الدمج ممكن، وأنه لا يحتاج إلى معجزات تقنية، بل إلى إرادة ووعي.
الرسالة الأعمق
لو عدنا إلى عنوان هذا التقرير – "اللمسة التي غيّرت المشهد"– سنجد أنه ليس مجرد استعارة. إنها حقيقة. اللمس هنا كان البوابة:
· لمس الصخرة المنقوشة.
· لمس "حمامة الشظايا".
· لمس التضامن بين المتطوعين والمكفوفين.
كلها "لمسات" صغيرة، لكنها صنعت تحوّلاً في المشهد الثقافي والاجتماعي.
View this post on Instagram
ما بعد الروشة..
الخطط المستقبلية واسعة: لوحات "برايل" في معالم بيروتية أخرى، ورش عمل تفاعلية، معارض، تعاون مع مؤسسات تعليمية. هذا ما قالته لنا مؤسسة الجمعية.
إذا نجحت هذه الرؤية، فقد تتحوّل بيروت إلى مدينة دامجة ثقافياً، حيث يستطيع أي شخص – مهما كانت إعاقته – أن يعيش التجربة نفسها التي يعيشها الآخرون.
دعوة ورؤية جديدة للمجتمع
هنا يوجّه الفنان نصار رسالة واضحة:"انشروا الفن كما تنتشر المياه في الأرض. لا تتركوه راكداً. ولندعم معاً مبادرات تتيح للناس جميعاً التفاعل مع ثقافتهم".
القطاع الخاص يمكن أن يكون شريكاً حاسماً. التمويل ليس مجرد تبرّع، بل هو استثمار في مجتمع أكثر عدالة واستقراراً.
في نهاية الأمر، القصة لا تحكي لوحة على صخرة الروشة فقط. إنها رؤية جديدة للمجتمع: أن نرى الاختلاف ليس عائقاً، بل فرصة لإعادة تصميم العالم بحيث يشمل الجميع.
-
أطلقت جمعية "عشتار" فكرة رائدة خاصة بالمكفوفين
تماماً، فإنّ لحظة صغيرة قد تصنع تحوّلاً كبيراً. وهنا، كانت اللحظة حين "لمس" المكفوفون صخرة الروشة بأصابعهم، فشاهدوا ما لم يشاهدوه من قبل.
تلك اللمسة كانت بداية مشهد جديد: مجتمع أكثر إنصافاً، أكثر إنسانية، وأكثر وعياً بأنّ الثقافة حقّ للجميع.