الآن هنا... شرق المتوسط مرة أخرى
لم يعد التصدي للعدوان على غزّة أو لبنان أو اليمن قضيتنا حسب رؤية النظام الرسمي العربي، فقضيتنا ألا نكون ضحايا مثل أولئك، ولن نستطيع تجنب هذه الوحشية الغربية – الصهيونية إلا بالخنوع.
-
نحن مدينون لأبنائنا وأحفادنا بما سنتركه للتاريخ.
العنوان للكاتب العربي عبد الرحمن منيف، يستكمل فيه حديثه عن واقع العلاقة بين المواطن العربي والسلطة. هذه العلاقة التي بدأ الحديث عنها في روايته "شرق المتوسط"، وحدّد فيها الطبيعة القمعية للسلطة في الوطن العربي، وعاد إليها في روايته الجديدة بعد 15 عاماً من الرواية الأولى ليقول إن طبيعة تلك العلاقة لم تتغير، فما زال المواطن العربي ضحية للقمع الممنهج من السلطة، محروماً من أبسط الحقوق الاقتصادية والسياسية، لذلك سمّيت الرواية التي صدرت عام 1991 "شرق المتوسط مرة أخرى".
اليوم، وبعد 35 عاماً على صدور تلك الرواية، ما زال المواطن العربي في كل بقاع هذا الوطن يتعرض لقمع السلطة، مضافاً إليه المجازر التي يرتكبها أعداؤه بحقه، والتي أصبحت بدورها أداة قمع إضافية تصادر حق المواطن ليس فقط في الحياة الكريمة، ولكن في الحياة بمعناها الفيزيائي المجرد.
اليوم، بعد مجازر العدو الصهيوني والولايات المتحدة في غزّة ولبنان واليمن، يتعرض الإنسان العربي لأخطر حالة قمع، وأكثرها وقاحة. المطلوب اليوم أن يتخلى العربي عن حقه في الدفاع عن نفسه وعن أرضه. حق كفلته الشرائع السماوية والقوانين الأرضية على مستوى الأفراد والمجتمعات. لكن السلطات الرسمية العربية تطارد كل من يطالب بهذا الحق وتطالبه بتسليم سلاحه إذا كان مقاتلاً، وتسليم قلمه إذا كان كاتباً، وتسليم عقله إذا كان مفكراً.
في الوطن العربي، يكفي إدراج منشور على أحد مواقع التواصل الاجتماعي ليصل بصاحبه إلى السجن بتهم تتراوح بين التآمر لقلب نظام الحكم، إلى الإضرار بالعلاقة مع دولة صديقة. مطلوب من كل مواطن ممارسة الرقابة الذاتية على عقله، والحذر الشديد من فكرة متمردة تفلت من أسر الرقابة وتتحوّل إلى كلمات، فقد تنقلب حياته رأساً على عقب، مع أنه مارس أضعف الإيمان بحق ما يرتكبه العدو ضد شعوبنا.
أما حامل البندقية، فهو متهم بالعدمية، والمغامرة، وتوريط الوطن في معارك لا قبل له بها، وتتحوّل المجزرة التي يرتكبها العدو الفاشي إلى خطيئة سببها هذا المقاوم الذي اختار التضحية بنفسه في سبيل قضية أمته. أي قمع يتجاوز هذا القمع؟
كل شعوب الأرض بنت ثقافاتها على مفاهيم حب الوطن والتضحية في سبيله، وكل أبطال التاريخ هم أولئك الذين خاضوا الحروب دفاعاً عن أوطانهم وانتصروا أو استشهدوا في سبيل تحقيق هذه الغاية. المطلوب اليوم من كل أبناء الأمة العربية التخلي عن أبطالهم، وعن أمجاد تاريخهم وحاضرهم، وعن دماء أجدادهم وأبنائهم الذين استشهدوا في سبيل قضايا الأمة. لقد تجاوزت الأنظمة مفهوم القمع الفردي باعتقال المعارضين أو قتلهم أو نفيهم، فالقمع اليوم يطال مجتمعات بأكملها، ويحاسبها عن كل ما آمنت به لمصلحة بقاء مجموعة من الحكام على عروشهم.
لم يعد التصدي للعدوان على غزّة أو لبنان أو اليمن قضيتنا حسب رؤية النظام الرسمي العربي، فقضيتنا ألا نكون ضحايا مثل أولئك، ولن نستطيع تجنب هذه الوحشية الغربية – الصهيونية إلا بالخنوع، والقبول بالهيمنة والتنازل عن الكرامة الوطنية، والتغاضي عن السيادة، ومصافحة القاتل لنأمن شره، والاستسلام لمشاريع الحكام التي تجنبنا سطوة العدو وجبروته.
في غزّة بلغ عدد من ماتوا جوعاً 258 إنساناً، ومن ماتوا قتلاً قرابة 62 ألفاً، علينا الاكتفاء بالترحم عليهم، وقد يسمح لنا بالبكاء والدعاء لهم، بشرط ألا نتجاوز في دعائنا السقف المسموح، فكم من خطيب سيق من منبره إلى غياهب السجون بسبب دعاء لا يتفق مع السياسة الرسمية لدولته. في لبنان تصدى أبطال المقاومة لآلة العدو الحربية ببسالة لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، وقدموا قادتهم شهداء على طريق القدس، والمطلوب اليوم سحب سلاحهم، وإدانة بطولاتهم، والخضوع لأوراق كتبت في دوائر استخبارات العدو وأمليت على الحكومات لتشرع في تنفيذها. أي قمع هذا، وأي ذل؟
هل ننتهي مثل أبطال رواية "الآن هنا"، رواة لما حدث ويحدث في بلادنا؟ هل نقبل بتدجيننا لنصبح أرقاماً حية لا تختلف في فعلها، عن أرقام أولئك الذين قدموا حياتهم تحت أنقاض المنازل المهدمة والخيام المحروقة؟ لسنا أرقاماً بل قوة تتفوّق على السلطة وعلى العدو. هزمناهم في لبنان وفي غزة وفي اليمن، كانت الإرادة سلاحنا، والصمود ذخيرتنا، ونحن قادرون على استعمال مكامن قوتنا في كل لحظة من لحظات التاريخ. علينا أن نتوقف عن كوننا إرادة لا تريد، وأن نتحوّل إلى إرادة مقرونة بالفعل، أن ندافع عن أنفسنا لأننا أصبحنا أسماء على لائحة القتل التي أعلن عنها نتنياهو في طريقه إلى "حلم إسرائيل الكبرى".
أن نرفع صوتنا دعماً للمقاومة وأن نشهره سلاحاً في وجه حكام بلادنا قبل العدو، لن نتحرر إلا بفعل أيدينا، وبقوة إيماننا بقضيتنا، وباستعدادنا للدفاع عنها. لن تحررنا المؤتمرات ولا الاتفاقيات، لن يحررنا قانون الرجل الأبيض الدولي ولا هيئاته ومحاكمه الدولية. حريتنا معقودة على ذراع في غزّة وأخرى في لبنان وثالثة في صنعاء. سيكتب التاريخ قصتنا، فماذا نريده أن يقول عنّا؟ رضخوا وماتوا بدعة وسلاماً، أم قاوموا واستشهدوا في ساحات الشرف وأخذوا مصيرهم بيدهم.
نحن مدينون لأبنائنا وأحفادنا بما سنتركه للتاريخ، فليكتب المؤرخون أننا الآن هنا وقفنا في وجه القمع والعدوان وانتصرنا.