محور المقاومة في مواجهة ترامب: تهديد النظام الفنزويلي وتداعياته
حين تتقدّم كاراكاس في الفناء الخلفي لواشنطن بخطابٍ سياديٍ متحرّر من الإملاءات الغربية، فإنها تعيد إنتاج تجربة محور إسلامي/عربي قاوم الحصار والعقوبات.
- 
الدور الجيوسياسي لفنزويلا في منظومة الردع الدولي.  
منذ أن أعلن قائد الثورة الإيرانية، الإمام الخميني أنّ "أميركا هي الشيطان الأكبر"، بنى محور المقاومة شبكة عابرة للقارات لمواجهة منظومة الهيمنة الصهيو_أميركية.
لم يكن هذا المشروع محصوراً في الشرق الأوسط، بل تمدّد إلى أميركا اللاتينية، إذ وجدت طهران في فنزويلا ما بعد الثورة البوليفارية صديقاً يعاني من العقوبات نفسها ويواجه العدو ذاته، فكانت العلاقات ثمرة تلاقٍ استراتيجي وأيديولوجي بين نظامين يحاولان التحرّر من الهيمنة الغربية، وليست وليدة المصالح العابرة.
فنزويلا بالنسبة لإيران ليست حليفاً عادياً، بل تمثّل "القاعدة الخلفيّة" التي تمكّن طهران من تجاوز الحصار الاقتصادي وتمويل المقاومة وإيصال صوت الثورة إلى ما وراء البحار؛ لذا فإنّ تهديد نظام الرئيس نيكولاس مادورو، ليس مجرّد تغيير حكومي في كاراكاس، بل ضربة استراتيجية تهدف إلى قطع شرايين التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري. ففي حين شكّلت جبهات لبنان والعراق واليمن الامتداد الطبيعي لمحور المقاومة في الشرق الأوسط، جاءت فنزويلا لتفتح جبهة جديدة في الخاصرة الجنوبية للولايات المتحدة.
الدور الجيوسياسي لفنزويلا في منظومة الردع الدولي
تؤدّي فنزويلا دوراً مركزياً في تحالف المقاومة على المستوى الدولي، ليس فقط من زاوية الدعم السياسي أو الاقتصادي، بل بوصفها ركناً جغرافياً متقدّماً في قلب المجال الحيوي للولايات المتحدة. فوجود دولة تتبنّى خطاباً مناهضاً لواشنطن على مقربة من حدودها الجنوبية يشكّل خرقاً غير مسبوق في منظومة الأمن القومي الأميركي، ويضع الإدارة الأميركية أمام معادلة جديدة من الردع غير المألوف.
هذا التموضع الاستراتيجي منح محور المقاومة ثلاثة مكاسب جوهرية:
أولاً، إرباك مراكز التخطيط في واشنطن التي تجد نفسها مضطرّة لإعادة توزيع مواردها الدفاعية والاستخباراتية لمراقبة "الخاصرة اللاتينية".
ثانياً، وفّر للمحور عمقاً جيوسياسياً ممتداً، ما منحه قدرة على المناورة والتأثير في الساحة الدولية.
ثالثاً، كرّس حقيقة أنّ منطق "الردع المتبادل" لم يعد حكراً على صراع الشرق الأوسط، بل أصبح معادلة كونية تتجسّد اليوم في علاقة كاراكاس بطهران وبقية أطراف محور المقاومة.
كيف تُشكّل فنزويلا "شرياناً اقتصادياً" للنفط الإيراني؟
رغم أنّ المسافة بين ميناء خارك الإيراني وميناء خوستو الفنزويلي تصل إلى أكثر من 12,000 كيلومتر، فإنّ العقل الاستراتيجي الإيراني نجح في تحويل هذا البُعد الجغرافي إلى ميزة استراتيجية. إذ تؤدّي فنزويلا دوراً محورياً في تمكين إيران من كسر طوق العقوبات المفروضة على صادراتها النفطية، من خلال تعاونٍ نفطي عميق يزاوج بين الحاجة المشتركة والإرادة السياسية.
فقد وقّع البلدان اتفاقية شراكة لمدة عشرين عاماً تشمل تطوير المصافي وإصلاحها وتبادل التكنولوجيا والخبرات في قطاعي النفط والبتروكيماويات، كما ابتكر الطرفان آلية "المقايضة النفطية" التي تُمكّن طهران من تزويد كاراكاس بالمكثّفات الإيرانية الخفيفة مقابل حصولها على النفط الفنزويلي الثقيل، في عملية تبادل تُقدَّر بعشرات آلاف البراميل يومياً.
هذه الشراكة لا تقتصر على تجاوز العقوبات فحسب، بل ترسّخ نموذج تعاون بين دولتين تقفان على خط المواجهة مع واشنطن، وتحوّلان الطاقة من مجرّد مورد اقتصادي إلى أداة استراتيجية في معركة فكّ الحصار وإعادة تشكيل النظام العالمي.
فنزويلا كجبهة رمزية في الحرب العالمية الناعمة
فنزويلا لا تمثّل فقط منفذاً اقتصادياً، بل جبهة رمزية في الحرب الأيديولوجية بين "عالم الهيمنة" و"عالم التحرّر". فمنذ عهد هوغو تشافيز، تبنّت كاراكاس خطاباً مناهضاً للإمبريالية متقاطعاً مع خطاب الثورة الإسلامية الإيرانية ومؤيّداً لفلسطين. كانت الأعلام الإيرانية تُرفع في شوارع كاراكاس كما تُرفع صور تشافيز في طهران، في مشهد يلخّص وحدة المسار والمصير.
هذا التقاطع أزعج واشنطن بشدّة، لأنها رأت في فنزويلا بوابة لاختراق نفوذها التاريخي في القارة الجنوبية، ولأنها وفّرت لطهران قدرة غير مسبوقة على التموضع بالقرب من الولايات المتحدة، على بعد ساعات طيران من ميامي.
ماذا لو صعّد ترامب حملته على فنزويلا؟
يتصاعد التهديد الأميركي ضدّ فنزويلا بشكل ملحوظ، مدفوعاً بمصالح جيوسياسية واقتصادية، مع استخدام مكافحة المخدّرات كذريعة رئيسية، تبرّر الحشد العسكري في البحر الكاريبي.
ضمن الخطة ذاتها، تواصل واشنطن فرض عقوبات قاسية على فنزويلا، ما يفاقم الأزمة الاقتصادية ويؤدّي إلى انهيار العملة ونقص الغذاء والدواء، إضافة إلى ذلك تجري منذ سنوات حملات ضغط دبلوماسي وإعلامي لعزل مادورو دولياً، وحثّ عواصم العالم على عدم الاعتراف بشرعيّته كرئيس للبلاد، ويتمّ ذلك عبر رعاية المعارضين مالياً وفبركة التقارير الحقوقية.
ولا شكّ أنّ النظام في فنزويلا يُستهدف لذاته، كما يُستهدف لارتباطه بطهران، كأهمّ ساحة للمقاومة في الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة تدرك أنّ الضغط على طهران لا يعني فقط محاصرة برنامجها النووي، بل أيضاً إضعاف القوى الحليفة لها، من بيروت إلى صنعاء، ومن بغداد إلى فنزويلا. ولهذا، فإنّ التصعيد الأميركي الموجّه ضدّ النظام الفنزويلي مؤخّراً ستكون له انعكاسات هيكلية على كامل المحور.
بنجاح الخطة الأميركية في فنزويلا، ستفقد إيران حليفاً بالغ الأهمية على المستوى الاقتصادي، يساعدها في الالتفات على العقوبات التي يفرضها البيت الأبيض، كما سيفقد المحور بأكمله ساحة للنشاط الأمني المكثّف الذي ظلّ لسنوات بعيداً عن أعين أجهزة المخابرات الغربية، لكنّ الخسارة الأكبر تظلّ على المستوى السياسي، إذ سيضعف تحالف البريكس وأوبك، فإيران وفنزويلا تمثّلان الثقل المعارض للهيمنة الأميركية داخل المنظومة، ولا شكّ أنّ سقوط النظام في كاراكاس سيفتح الباب أمام نظام موالٍ لواشنطن يُعيد شركات النفط الأميركية، ويُحيي نموذج "جمهوريات الموز" الخاضعة.
لكنّ تحقيق أحلام بعض الجمهوريين الأميركيين بتطبيق هذا السيناريو ليس سهلاً، فالرئيس مادورو يتمتع بدعم عسكري متماسك من الجيش والتنظيمات الشعبية، إضافة إلى غطاء روسي ـــــ صيني متين. أما داخل الولايات المتحدة، فإنّ خيار التدخّل العسكري المباشر يواجه رفضاً واسعاً، فالبنتاغون يخشى تكرار كابوس العراق، والكونغرس لا يريد أن يتورّط في تمويل ميزانية حرب جديدة، أما الرأي العامّ الأميركي فغارق بين أوكرانيا وغزة والأزمات الداخلية المتصاعدة.
تحالف دولي واسع في مواجهة ترامب
مع تصاعد سياسات ترامب التوسّعية ومحاولاته إعادة فرض الهيمنة الأميركية بالقوة، أخذ هذا التنسيق بين موسكو وبكين وطهران وكاراكاس بعداً أوسع، ليغدو بمثابة تحالف غير معلن يهدف إلى تقويض التفرّد الأميركي، وخلق توازن ردعي عالمي يحدّ من مغامرات واشنطن العسكرية ويؤسّس لمرحلة ما بعد الأحادية القطبية، إذ تشير التطوّرات الأخيرة إلى تصاعد الدعم الروسي والصيني لفنزويلا في مواجهة الضغوط والتهديدات الأميركية.
فخلال العام الجاري، وقّع الرئيس فلاديمير بوتين مع نيكولاس مادورو اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة للتعاون في مجالات الطاقة والنفط والدفاع، فيما أدانت موسكو لاحقاً الضربات الأميركية قرب السواحل الفنزويلية ووصفتها بالعمل العدواني، كذلك، أكدت بكين دعمها الثابت لسيادة فنزويلا واستقرارها، وشاركت في دعم "خطة التحوّلات السبع" التنموية التي يتبنّاها النظام.
وفي السياق ذاته، عزّزت إيران من تعاونها مع القوتين الكبريين، إذ بدأت فعلياً بتفعيل اتفاقية الـ 20 عاماً مع روسيا في مجالات النفط والطاقة النووية، ومع الصين عبر استثمارات تفوق 90 مليار دولار.
فنزويلا وطهران رمزان لعقيدة لا تُهزم
تبقى فنزويلا رمزاً لاختراق الهيمنة الأميركية في عقر دارها، تماماً كما تبقى طهران قلب محور المقاومة النابض. فحين تتقدّم كاراكاس في الفناء الخلفي لواشنطن بخطابٍ سياديٍ متحرّر من الإملاءات الغربية، فإنها تعيد إنتاج تجربة محور إسلامي/عربي قاوم الحصار والعقوبات.
وإذا كانت الولايات المتحدة تراهن على إسقاط حليفٍ بعيد لإحداث شرخ اقتصادي وسياسي في المحور بأكمله، فإنها ستكتشف ـــــ كما اكتشفت في العراق وسوريا ولبنان ـــــ أنّ المقاومة لا تُحاصر بالمسافة، ولا تُهزم بالعقوبات، لأنها عقيدة قبل أن تكون منظومة.
هذا التلاقي بين الشرق الثابت والجنوب الثائر يشكّل اليوم معادلة ردعٍ جديدة، تُنذر بانتهاء زمن الأحادية القطبية، وتفتح الباب أمام نظام عالميّ تتوزّع فيه موازين القوة بين شعوب قرّرت أن تقول لا. ففنزويلا ليست مجرّد دولة متمرّدة، بل جبهة متقدّمة في معركة الوعي والسيادة، تماماً كما كانت طهران من قبلها.