مصر التي تجدّد زمانها... المتحف الكبير وسؤال الهوية
إنها لحظة تستعيد فيها مصر قدرتها على تجديد زمانها، وتؤكد أنّ بقاءها ليس صدفة جغرافية، بل إرادةٌ مستمرة وحكمةٌ متجدّدة.
-
المتحف بوصفه مرآة الروح المصرية.
في زمنٍ تاهت فيه المعاني وتكاثرت الأسئلة حول الهوية والانتماء، جاء افتتاح المتحف المصري الكبير ليعيد لمصر صورتها الأولى: أمّة قادرة على أن تصهر الماضي في الحاضر، وأن تحوّل الذاكرة إلى طاقةٍ خلّاقة.
إنه ليس حدثاً أثرياً فحسب، بل مناسبة أعادت فتح النقاش الأبدي حول من نكون، وكيف تتجدّد هوية المصري في كلّ عصرٍ من دون أن يفقد جذوره.
عودة الذاكرة إلى الجسد
من فوق هضبة الأهرامات، حيث كتب الأجداد أولى معادلات الخلود على صفحة الزمن، أشرقت مصر في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2025 بحدثٍ لم يكن معمارياً فحسب، بل معراجاً للوعي الوطني: افتتاح المتحف المصري الكبير، أضخم متحفٍ في العالم مكرّسٍ لحضارةٍ واحدة.
لم يكن المشهد احتفالاً فنياً عابراً، بل لحظة استعادةٍ للذاكرة الجمعية، أعادت وصل ما انقطع بين التاريخ والراهن، بين الجذور والهوية، في زمنٍ تتشابك فيه الخرائط وتضطرب المعاني.
في تلك الليلة، بدا أنّ المصريين ـــــ على اختلاف انتماءاتهم ـــــ اجتمعوا حول وجدانٍ واحد، ينهل من نهرٍ واحد، كأنّهم يستعيدون لحظة النشأة الأولى.
امتلأت جدران مواقع التواصل بصورٍ أبدعها الذكاء الاصطناعي لأبناء هذا الوطن وهم يرتدون الزيّ الفرعوني، في تعبيرٍ عفوي عن فخرٍ بالحضارة واحتفاءٍ بالذات، وكأنّ مصر تقول للعالم:
"نحن لا نعيش على أطلال الماضي، بل نستعيده لنصوغ به حاضرنا".
ذلك الاحتفاء لم يكن مجرّد احتفالٍ بصرحٍ معماري، بل بداية لرحلةٍ أعمق في البحث عن معنى مصر نفسها.
المتحف بوصفه مرآة الروح المصرية
المتحف المصري الكبير ليس مجرّد صرحٍ أثري أو متحفٍ عالمي، بل شاهدٌ على فكرة مصر ذاتها، على هويتها التي تتجدّد كما النيل، لا تنقطع ولا تتكرّر.
وفي حفل افتتاحه، تماهت الأزمنة في مشهدٍ فنّي بديع؛ الترانيم القبطية والألحان الصوفية والرموز الفرعونية تعانقت في لوحةٍ واحدة، لتقول إنّ هذه البلاد لا تعرف القطيعة، وإنها تنتمي إلى فلسفة الاستمرارية لا إلى صراع المراحل.
فكلّ قطعة حجرٍ فيه ليست شاهداً على الماضي فحسب، بل برهانٌ على قدرة المصري على تحويل التراث إلى طاقة حياة، إذ يرى في البقاء عبادة، وفي الكرامة قدراً، وفي النظام قانوناً للوجود.
وهنا بدأ السؤال القديم يتجدّد: أيّ هويةٍ تلك التي تعبر من عهدٍ إلى عهدٍ من دون أن تفقد ملامحها؟
الهوية المصرية... جدل الأمس الدائم
منذ مطالع القرن التاسع عشر، وسؤال الهوية يطلّ برأسه كلما تبدّلت الأحوال وتغيّرت الأزمنة؛ فلم يكن ترفاً فكرياً، بل بحثاً عن معنى الوجود المصري في مواجهة التحوّلات الكبرى.
أهي فرعونية الجذر، عربية اللسان، إسلامية الروح، أم مزيجٌ من هذه العناصر جميعاً؟
وقد تباينت الإجابات بين روّاد الفكر النهضوي من طه حسين إلى أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وعباس العقّاد، لكنهم جميعاً التقوا عند إيمانٍ واحد: أنّ مصر أكبر من أن تُختزل في تعريفٍ واحد.
كتب طه حسين في مستقبل الثقافة في مصر:
"مصر ليست شرقية خالصة ولا غربية خالصة، وإنما هي بين بين، تأخذ من الشرق روحانيته ومن الغرب نظامه وعقله".
كان يرى أنّ مصر جزءٌ من حضارة البحر المتوسط، وأنّ هويتها تتجاوز الجغرافيا نحو المشاركة في صناعة العقل الإنساني.
أما أحمد لطفي السيد، فقد كان من أوائل من صاغوا مفهوم القومية المصرية في مطلع القرن العشرين، رافضاً أن تُختزل هوية مصر في بعدها الديني أو العرقي.
كتب يقول:
"إنّ المصري هو من يسكن هذه الأرض ويعيش في ظلّ قوانينها ويشارك أهلها وجدانهم، أياً كان دينه أو أصله".
ورأى أنّ القومية المصرية ليست نزعة ضدّ العروبة أو الإسلام، بل وعيٌ بالوطن الذي صاغه التاريخ والنيل، مؤكّداً أنّ الانتماء إلى مصر هو الأصل الذي تنبثق منه سائر الانتماءات.
وذهب سلامة موسى إلى أنّ "الفرعونية ليست ماضينا فحسب، بل مزاجنا العقلي حتى اليوم"، معتبراً أنّ المصري القديم أول من آمن بالعقل والنظام، وهما ـــــ في رأيه ـــــ أساس الشخصية المصرية حتى في عصر الحداثة.
بينما رأى عباس العقّاد أنّ عبقرية مصر "تقوم على التوفيق بين المتناقضات: الإيمان والعقل، المادة والروح، الشرق والغرب"، مؤكداً أنّ المصري لم يكن متديّناً بالطقوس وحدها، بل "متفلسفاً بالفطرة، يؤمن بالعدل الكوني ويرى في النظام صورةً من صور الإله".
ذلك الجدل، في جوهره، لم يكن سوى مرآةٍ لتحوّلات مصر بين الشرق والغرب، بين الذات والعالم، بين الماضي والحاضر.
لكن كلّ تلك الاجتهادات ـــــ على تنوّعها ـــــ ظلّت تبحث عن معادلة واحدة تصهر هذه العناصر في كيانٍ متكامل، حتى جاء جمال حمدان ليضع البصمة الأخيرة في هذا النقاش الممتدّ.
مصر التي لا تُختزل
وحين بلغ الجدل حول هوية مصر ذروته بين دعاة الفرعونية والعروبة، جاء جمال حمدان ليحسم السؤال بميزان العلم والعقل، مقدّماً رؤيةً جعلت منه ضمير الجغرافيا المصرية.
كتب في موسوعة "شخصية مصر" عبارته التي أصبحت مفتاحاً لفهم الذات الوطنية:
"مصر ليست تراكم حضارات، بل تركيب فريد صاغته الجغرافيا والتاريخ والإنسان في وحدةٍ لا تتجزّأ".
في رؤيته، ليست الهوية المصرية مفاضلةً بين مراحل، بل تفاعلٌ دائم بينها:
من الفرعونية روح التنظيم والعدل،
ومن القبطية تأمّل الروح وطمأنينة الضمير،
ومن الإسلام عقل الوحدة والعدالة،
ومن العروبة امتداد الرسالة والوجدان.
وهكذا، فمصر ليست ابنة حقبةٍ ولا دينٍ ولا لغةٍ بعينها، بل هي المعادلة الكبرى التي تتسع لكلّ هذه العناصر من دون أن تنفي أحدها.
ولهذا قال حمدان عبارته الشهيرة:
"مصر لا تلبس هوية أحد، بل تمنح الهوية لمن يمرّ بها".
ومن هذه الرؤية تتولّد الفلسفة الأعمق: أنّ البقاء في مصر ليس صدفة تاريخية، بل قدرٌ تختبره في كلّ عصرٍ من جديد.
عبقرية البقاء
افتتاح المتحف المصري الكبير ليس احتفاءً بالحجر، بل بالإنسان الذي نفخ في الحجر روح الخلود، وجعل من الأثر ذاكرةً حيّة تنطق بلغة الحاضر.
إنها لحظة تستعيد فيها مصر قدرتها على تجديد زمانها، وتؤكد أنّ بقاءها ليس صدفة جغرافية، بل إرادةٌ مستمرة وحكمةٌ متجدّدة.
وفي عالمٍ تتشظّى فيه الهويات وتضيع المعاني، تظلّ مصر ــــ كما وصفها جمال حمدان ـــــ "قلب العالم وضميره الجغرافي"، لتقول للعالم من جديد:
"نحن أبناء النهر، نولد من الطمي والضوء، ونمنح للزمان تاريخه ومعناه".
هكذا تظلّ مصر، كما كانت دائماً، أمّة الخلود والتجدّد؛ تحفظ في روحها سرّ البقاء، وتمنح لكلّ عصرٍ ملامحه ومعناه.
لأنّ مصر، ببساطة، لا تعيش في التاريخ... بل التاريخ هو الذي يعيش فيها.