معركة غزة "الكبرى".. سيناريوهات مُتوقّعة ونتائج مُحتملة!
أي هجوم كبير على غزة مع كل ما يحمله من خسائر ومعاناة لن يكون سهلاً على الإطلاق، وسيحمل بين جنباته تحدّيات عديدة، يمكن أن تنتج عنها تداعيات قاسية قد تُصيب جهود الاحتلال الساعية لإحراز إنجاز نوعي في مقتل.
-
أحد السيناريوهات المُتوقّعة لمعركة غزة هو الهجوم الواسع متعدّد الاتجاهات.
بالنسبة إلى معظم الموجودين في مدينة غزة، ونحن منهم، تبدو المعركة المُرتقبة التي يهدّد بها العدو ضد المدينة آتية لا محالة، وهذه المعركة من وجهة نظر الكثيرين، لا سيّما المختصّين بشؤون الحرب، لن تكون كأي معركة أخرى جرت خلال الأشهر الاثنين والعشرين الماضية، حتى تلك المعارك التي وُصفت بالعنيفة والقاسية مثل التي جرت في خان يونس ورفح وبيت حانون وجباليا، إذ إن المرحلة الحالية التي تمر بها معركة "طوفان الأقصى"، سواء على الصعيد الميداني الذي يشهد تصعيداً كبيراً من قِبل "جيش" الاحتلال، أو في ما يخص انسداد الأفق السياسي أمام أيّ حلّ قد يُفضي إلى التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، بالإضافة إلى المواقف العربية والدولية التي ما زالت تراوح مكانها، ولا تساهم في تشكيل أي ضغط يُذكر على "دولة" الاحتلال.
كل ذلك يجعل من انطلاق معركة غزة "الكبرى" بصورتها الشاملة مسألة وقت ليس أكثر، وما يؤخّرها مرتبط بالأساس بترتيبات لوجستية وعملانية تخص استدعاء مزيد من جنود الاحتلال، لا سيّما من كتائب وألوية الاحتياط ،بالإضافة إلى تمهيد مسرح العمليات المعقّد والمليء بالكثير من التحدّيات والمخاطر التي يخشى قادة الاحتلال من تأثيراتها على جنودهم الذين يتأهّبون لمهاجمة أكبر مدن القطاع، وأكثرها سكّاناً والتي، وإن تم اجتياحها خلال شهور الحرب أكثر من مرّة بشكل جزئي، من خلال عمليات عسكرية كانت تستهدف أحياء بعينها فيها مثل الزيتون والشجاعية والتفاح على وجه التحديد، إلا أنه لم يحدث في أيٍ من تلك العمليات أن سيطرت القوات الإسرائيلية على كامل المدينة، بل إنها لم تتموضع داخل الأحياء التي كانت تهاجمها، وإنما اعتمدت على عمليات هجومية استغرق بعضها ثلاثة أشهر، وفي أحيان أخرى أكثر من ذلك، ثم انسحبت إلى مواقعها الموجودة على الحدود الشرقية للمدينة، أو باتجاه محور "نتساريم" جنوباً، والذي بات نقطة انطلاق مهمة ورئيسية سواء لقطع أوصال محافظات القطاع، أو لتنفيذ عمليات هجومية تكتيكية ذات أهداف مختلفة.
في عملية الهجوم على غزة التي يهدّد بها الاحتلال صباح مساء ،والتي يُفرد لها كل القادة السياسيين والعسكريين الصهاينة جزءاً مهماً من تصريحاتهم خلال الأسابيع الأخيرة، إلى جانب التسريبات التي تُنشر في وسائل الإعلام العبرية المختلفة، والتي تشنّ من خلالها أجهزة استخبارات العدو حرباً نفسية شعواء على المواطنين الفلسطينيين في غزة، وتحاول قدر استطاعتها دفعهم وإرغامهم على المغادرة باتجاه المنطقة الوسطى وما تبقّى من مواصي خان يونس، في هذه العملية تبدو الكثير من السيناريوهات مطروحة ومُتاحة، خصوصاً في ما يخصّ شكل المعركة، وطريقة إدارتها من طرف العدو، وكذلك من طرف المقاومة، بالإضافة إلى التداعيات الناشئة عنها، والتي قد تؤدي، حسب وجهة نظر البعض، إلى حسم الحرب لمصلحة العدو، ومن وجهة نظر البعض الآخر، إلى انكسار مشروعه العدواني بشكل نهائي، واضطراره إلى القبول بالمقترحات والمبادرات التي ما زال يماطل في قبولها حتى الآن.
أحد السيناريوهات المُتوقّعة لمعركة غزة هو الهجوم الواسع متعدّد الاتجاهات، والذي تقوم من خلاله فرق الاحتلال المختلفة والتي يمكن أن تتجاوز ثلاث فرق، حسب بعض المعلومات المتداولة، بتنفيذ توغلات واسعة من جهات مختلفة، بهدف تشتيت مقاتلي المقاومة، ودفعهم إلى القتال على أكثر من محور في وقت واحد، وهو ما يمكن أن يؤثر على فعالية خطط الدفاع لدى المقاومين، خصوصاً في ظل نقص الإمكانيات العسكرية المتوفرة لديهم بعد كل هذا الوقت الطويل من القتال.
هذا السيناريو له ما يدعمه على أرض الواقع حالياً، إذ تهاجم قوات الاحتلال مدينة غزة من محورين، الأول من جنوب المدينة باتجاه حي الزيتون أكبر أحياء المدينة، والذي تواجه فيه تحديّات كبيرة كما حدث قبل أيام في الكمين المُحكم قرب مبنى عيادة الوكالة غرب الحي، ومن الشمال باتجاه منطقة التفاح الغربي ومنطقة الزرقا وشمال منطقة الشيخ رضوان.
هذه العمليات التي يراها البعض بروفة نهائية للاجتياح الكبير، ترجّح اعتماد "جيش" الاحتلال سيناريو الهجوم من جبهات عدة، وهذا السيناريو وإن كان يحتاج إلى قوات كبيرة نسبياً، فإنه من وجهة نظر عسكرية أفضل من الهجوم من اتجاه واحد للأسباب التي شرحناها آنفاً.
سيناريو آخر ممكن ومُتاح، يشمل القيام بعمليات اختراق عرضي وطولي، حيث يشمل الاختراق الطولي التحرك من الجنوب باتجاه الشمال، أي من محور "نتساريم" باتجاه عمق أو شمال المدينة، أو من الشمال باتجاه الجنوب من منطقة الزرقا والتفاح الغربي باتجاه عمق المدينة في منطقة الساحة والبلدة القديمة، أما الاختراق العرضي فيمكن أن يبدأ من أحياء الشجاعية والتفاح والزيتون شرقاً، باتجاه مناطق الرمال وتل الهوا ومخيم الشاطئ غرباً، أو من منطقة الشفاء وتل الهوا غرباً، باتجاه قلب المدينة ومنطقة الدرج والصحابة في منطقة الوسط. هذا السيناريو سيساهم في تقطيع أوصال المدينة وتحويلها إلى مسارح عمليات مصغّرة، تتم السيطرة على حدودها من الخارج بما يؤمن حصار من بداخلها، ومن ثمّ يتم تنفيذ عمليات تمشيط وتدمير داخل حدود تلك المربعات.
ما يجعل هذا السيناريو مطروحاً وممكناً هو ما يحدث حالياً في حي الزيتون أيضاً كما هي الحال مع السيناريو الأول، إذ إن قوات الاحتلال قامت بالالتفاف على حي الزيتون من جهته الغربية، أي على حدود الحي مع منطقة الصبرة المجاورة، حيث انطلقت من منطقة دوّار دولة وجامع علي والمصلّبة المحاذية لشارع رقم 8 جنوب الحي، والتفّت شمالاً باتجاه عيادة الوكالة ومسجد بدر، وهي نقطة الفصل بين الزيتون والصبرة كما أسلفنا، وهو ما منح قواتها التي تعمل داخل حي الزيتون، وتعيث به دماراً وخراباً جداراً نارياً سميكاً، وإن تعرّض هذا الستار خلال الأيام الأخيرة لاستهدافات نوعية كادت أن تنتج عنها عمليات أسر لجنود الاحتلال.
في شمال المدينة يحدث أيضاً أمر مماثل، إذ تحاول قوات الاحتلال تجاوز منطقة العمليات في منطقة الزرقا والتفاح الغربي، والالتفاف عليها من ناحيتها الغربية من جهة مفترق أبو إسكندر في شرق منطقة الشيخ رضوان، وهو ما يؤمّن لها الجدار نفسه الذي أقامته في حي الزيتون.
سيناريو ثالث يمكن أن يكون عبر الهجوم من الشرق باتجاه الغرب، أي من مناطق الشجاعية والتفاح وشرق الزيتون المدمرة والمخلاة، باتجاه الغرب بشكل عرضي، بحيث يتم العمل على كامل مساحة مدينة غزة من الجنوب باتجاه الشمال، بما يؤدي إلى دفع المواطنين إلى المناطق الغربية حصراً، وهذه المناطق في تل الهوا والرمال ومخيم الشاطئ ستكون عبارة عن جزيرة معزولة في حال تم إغلاق محور "نتساريم" من ناحية شارع الرشيد "البحر"، وهو الأمر الذي يعني فرض حصار مُطبق على كامل المنطقة الشمالية من القطاع وليس على مدينة غزة فقط، مع التذكير بأن مناطق جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا وجباليا البلد وما يجاورها هي مناطق يسيطر عليها الاحتلال بالنار، ولا يوجد فيها سكّان على الإطلاق.
كل ما سبق من سيناريوهات يتم التمهيد له منذ أكثر من أسبوعين بقصف جوي ومدفعي هائل لا يتوقّف، بالإضافة إلى عمليات تفجير الروبوتات المفخّخة، والتي تمسح مربعات سكنية عن وجه الأرض بشكل كامل، وهو ما يساهم في تدمير معظم المناطق العمرانية التي ما زالت قائمة، والتي تشكّل تحدّياً أساسياً في حال قررت قوات الاحتلال التقدم بريّاً، لما تمثّله من عوائق اصطناعية يمكن أن تُستخدم في نصب الكمائن والفِخاخ، بالإضافة إلى ما توفّره من حماية للمقاومين والمقاتلين الذين تترصّدهم طائرات الاحتلال المسيّرة طوال الوقت.
على المقلب الآخر، وعلى الرغم من قتامة ما ذكرنا أعلاه من سيناريوهات، وما تمثّله من هواجس لدى سكّان مدينة غزة، فإن أي هجوم كبير على المدينة مع كل ما يحمله من خسائر ومعاناة للمواطنين لن يكون سهلاً على الإطلاق، وسيحمل بين جنباته تحدّيات عديدة، يمكن أن تنتج عنها تداعيات قاسية قد تُصيب جهود الاحتلال الساعية لإحراز إنجاز نوعي في مقتل، وقد تؤدي إلى انهيار كل أهداف الحرب دفعة واحدة، خصوصاً أن ما يتم الحديث عنه إسرائيلياً عن هذه العملية يُشير إلى اعتماد نتنياهو وائتلافه المتطرّف على نتائجها لإعلان نجاحه في حسم المعركة بشكل نهائي.
من أهم التحدّيات هو مساحة المدينة، واتساع رقعتها الجغرافية قياساً بباقي مدن القطاع، وهو ما يفرض إدخال قوات كبيرة إليها للسيطرة على مناطقها كافة، وهذا الأمر تحديداً يجعل من إمكانية استهداف تلك القوات أمراً ممكناً ومُتاحاً، خصوصاً في ظل امتلاك المقاومين قدرات وإمكانيات تساعدهم على القيام بهذا الدور، لا سيّما على صعيد استهداف الآليات المدرعة والدبابات، بالإضافة إلى ما باتوا يمتلكونه من خبرات كبيرة في مجال حرب المدن والحرب اللامتناظرة.
التحدّي الثاني هو المقاومون الذين أشرنا إليهم أعلاه، فهم إلى جانب امتلاكهم إمكانيات نوعية، وخبرات كبيرة، فهم موجودون في مدينة غزة بأعداد كبيرة نسبياً، إذ إن إخلاء المناطق الشمالية مثل جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، جعل كل السكّان بمن فيهم المقاومون من تلك المناطق يتكدّسون في مدينة غزة، وهو ما يمنح المقاومة قدرات بشرية قتالية أكبر من مثيلاتها في باقي محافظات القطاع، أو في مراحل سابقة من الحرب، وبما أن المقاومة تعدّ عملية غزة نقطة مفصلية في الحرب العدوانية على القطاع، وتعتمد على نتائجها لكسر موجة العدوان، فإنها ستلجأ إلى كل ما بين يديها من إمكانيات ومقاتلين، وستستبسل كما لم يحدث من قبل، فهذه المعركة سيكون شعارها أكون أو لا أكون.
تحدّ ثالث هو المناطق العمرانية التي ما زالت على حالها أو تعرّضت لأضرار جزئية في هجمات سابقة، وهي كما هو معلوم عسكرياً تمثّل عامل قوة للطرف المدافع، لما تمثله من غطاء للمقاتلين، بالإضافة إلى إمكانية تحوّلها إلى موانع اصطناعية تعيق تحرّك قوات العدو حتى لو تم تدميرها، فركامها وأنقاضها سيقومان بالدور نفسه في حال لم تتم إزالتها وإبعادها عن مسرح العمليات.
هذا التحدّي يحاول "جيش" الاحتلال حالياً التعامل معه وتقليص مخاطره من خلال نسف أكبر قدر ممكن من هذه المناطق من خلال التفجيرات والقصف الجوي، وخصوصاً في المناطق المنوي شنّ الهجوم منها كما يحدث حالياً في الزيتون وأطراف الصبرة ومنطقة الزرقا والشيخ رضوان ومنطقة الصفطاوي.
في ما يخص التداعيات، يمكن أن تنتج عن هذا الهجوم المُرتقب تداعيات مهمة ولافتة، تحدّدها في الأساس نتائج المعركة في الميدان، إذ يمكن للطرف الذي يحقّق الجزء الأكبر من أهدافه أن يحصد نتائج يمكن أن تكون حاسمة ومفصلية.
في حال تحقيق العدو الصهيوني إنجازاً ميدانياً كبيراً، من خلال تمكّنه من السيطرة على كامل مدينة غزة بعد تدميرها وتحويلها إلى أكوام من الركام، وهو ما سيفرض إخلاءً قسرياً على أكثر من مليون من السكّان الموجودين فيها، وهم يمثلون سكان المدينة نفسها، بالإضافة إلى سكّان المنطقة الشمالية من القطاع والذين تم ترحيلهم منها سابقاً، في حال تم هذا السيناريو، لا سمح الله، فإنه سيمنح العدو إنجازاً عملياتياً ومعنوياً كبيراً، وسيسهم في تقليص مساحة القطاع إلى أقل من النصف، وربما يؤدي لاحقاً إلى عودة المستعمرات إلى المنطقة الشمالية من القطاع، خصوصاً في مناطق بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا، وسيعطي الاحتلال فرصة لاستكمال مخطّطه باتجاه المنطقة الوسطى من القطاع لاحقاً.
تداعيات أخرى مهمّة قد تنشأ في حال فشل مخطّط الاحتلال بالسيطرة على المدينة، أو دفع سكّانها إلى الخروج منها وإخلائها، لا سيّما في حال تكبّده خسائر فادحة في الأفراد والمعدّات، كما هو مُتوقّع، أو وقوع عدد من الجنود أسرى في قبضة المقاومين.
في حال تحقّق هذا الأمر، فإن تداعيات دراماتيكية قد تنشأ عنه، من بينها سقوط حكومة الاحتلال وتفكّك الائتلاف المتطرّف، وازدياد الدعوات الداخلية والخارجية إلى وقف الحرب، وهو أمر سيصبح أقرب بكثير مما هو عليه الآن.
على كل حال، الأيام القادمة ستحمل الكثير من المفاجآت من دون أدنى شك، يمكن أن يكون بعضها ذا تداعيات هائلة، إلا في حال تراجع الاحتلال عن مخططاته العدوانية، وقبل بمقترح وقف إطلاق النار الأخير، وهو أمر يبدو حتى وقتنا هذا بعيد المنال.