حربٌ إسرائيليةٌ طويلة ومكاسب مؤقتة، حربٌ قصيرة ومكاسب استراتيجية...!

استمرار الحرب من دون أن تتمكّن "إسرائيل" من تحقيق أهدافها، دفع بالكثيرين إلى الاحتجاج، فيما تعزّزت القناعة لدى شرائح من المجتمع الإسرائيلي بأن الحرب مستمرة وتُدار لدواعٍ سياسية.

0:00
  • الحكومة الإسرائيلية الحالية تصر على إحداث تغيير جذري في غزة.
    الحكومة الإسرائيلية الحالية تصر على إحداث تغيير جذري في غزة.

صدر العديد من المراجعات النقدية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، الأطول في تاريخ "إسرائيل"، ومساراتها ومآلاتها، وتصاعدت مع تصاعد الحرب، متناولةً سلوك الجيش الإسرائيلي والحكومة في إدارتها. برز من بين المنتقدين رؤساء وزراء سابقون ورؤساء أجهزة أمنية سابقون، ورؤساء أركان وجنرالات سابقون، إضافة الى زعماء معارضة، وكُتّاب، وإعلاميون كُثر.

يتفق معظم النُقّاد على أن "إسرائيل" تواجه معضلات استراتيجية تشكل خطراً داهماً على مستقبلها، ولا تسمح لها بالانتصار الذي يسعى نتنياهو خلفه. برزت في هذه التحليلات بصورة خاصة انتقادات لاذعة، من بين أمور أخرى، لإطالة أمد الحرب كواحدة من المعضلات الأكثر تأثيراً في المجتمع الاسرائيلي، من دون وضوح مسار للخروج منها.

في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، كان من الصعب أن تجد تبايناً في المواقف الإسرائيلية الداخلية من الحرب؛ فقد كان الإجماع الصهيوني حول صورتها وأدواتها ووتيرتها شبه مطلق. لكن استمرار الحرب لفترة طويلة من دون تمكن "إسرائيل" من تحقيق أهدافها المُعلنة من استعادة الأسرى وإنهاء حكم حماس وإخضاعها، دفع بالكثيرين إلى الاحتجاج وانتقاد الطريقة التي تُدار بها، مع تعزز القناعة لدى شرائح واسعة في المجتمع الإسرائيلي أن الحرب تستمر وتُدار لمصلحة اعتبارات سياسية مرتبطة ببقاء الائتلاف الإسرائيلي الحاكم. 

رؤيتان وتيّاران:

مع خروج غانتس وأيزنكوت من الائتلاف الحاكم ازدادت الانتقادات وتبدّى في المشهد الإسرائيلي تياران فيما يخص الموقف من الحرب. الأول؛ يمثله نتنياهو وائتلافه الحاكم، ويرى ضرورة مواصلة الحرب ويرفض التخلي عنها من أجل استعادة الأسرى والوصول إلى ترتيبات تتعلق باليوم التالي وحكم القطاع بعد الحرب، ويؤمن "أن الأمن القومي الاستراتيجي الإسرائيلي، عبر الحسم مع حماس، أهم من حياة بضعة إسرائيليين في الأسر". استغل هذا التيار الشعور بالخطر الوجودي المُضخّم الذي خلقه هجوم 7 أكتوبر لدى الإسرائيليين، من أجل استدامة جر المجتمع الإسرائيلي خلف حربه المفتوحة على القطاع. 

أما التيار الثاني، فيرى أن "إخضاع حماس وتسليم سلاحها ما هو إلا حجة لاستمرار الحرب وأن بإمكان "إسرائيل"، التي أنهت الحرب مع إيران وحزب الله، الأقوى من حماس، أن تذهب إلى إنهاء الحرب على قطاع غزة واستعادة الأسرى، وأن مسألة معالجة قضية حماس والقضاء عليها تأتي لاحقاً". فالانتقادات اللاذعة التي وجهها هؤلاء لنتنياهو أنه يُطيل الحرب لاعتبارات سياسية مُقدماً حساباته الشخصية وخشيته من حل حكومته على الأمن القومي الإسرائيلي ومصالح "إسرائيل" التي تضر بها حرب استنزاف طويلة لا تتوقف.

حربٌ قصيرة لا طويلة

تفترض رؤية تيار المنتقدين للحرب، أن "إسرائيل" لا تستطيع فرض إنهاء النزاع بالقوة على أعدائها في حرب طويلة، لأنها صغيرة جداً بالنسبة إلى العالمَين العربي والإسلامي. كما أن العدو الرئيسي الذي تواجهه في غزة ليس جيش دولة نظامياً بل "منظمات مُسلحة" لا تُقاس قوتها بكمية القوة العسكرية المتاحة لها أو بجودة أسلحتها، بل بقدرتها على الوصول إلى الطرف الآخر وكسر إرادته. كما أن فشل "الدولة القوية" في تحقيق هدفها الاستراتيجي بسرعة وحسمه يتسبب في فقدانها الدعم لحربها في الداخل كما في الخارج، فيما يسعى الجانب الأضعف عسكرياً إلى كسر التماسك الاجتماعي لعدوه من خلال استغلال حقيقة أن "الدول القوية أقل تسامحاً مع الخسائر من خصومها".

يشكل هذا الافتراض الركيزة الأساسية للرؤية الأمنية التي خلقت ديناميكية "الجولات القتالية"، ووقفت تاريخياً خلف تأجيل الحروب الطويلة عن طريق ردع الأعداء عن مهاجمة "إسرائيل"، أي "الردع بالمنع" بالاعتماد على فائض القوة وعلى جيشٍ احتياطي كبير يجري تجنيده سريعاً بناء على إنذار استخباري. وبما أن تجنيد الاحتياط يشلّ نشاط الاقتصاد الإسرائيلي، فإن الرؤية الأمنية الأجدى تُفضل الحروب القصيرة. فتعبئة احتياطي الجيش بالقدر المطلوب تضر بشكل غير مباشر بالاقتصاد الإسرائيلي بسبب الغياب المطول لأفراد الاحتياط عن القطاع الإنتاجي. لذلك يُجادل المنتقدون بأن "تقصير مدة القتال أمر بالغ الأهمية لتقليل الأضرار التي تلحق بالجمهور والبنية التحتية للدولة نتيجةً للقتال، وللحد من شلل الاقتصاد قدر الإمكان".

اضطرت "إسرائيل" تاريخياً إلى الانخراط في حرب، مرة كل بضعة أعوام، لتضرب العدو عبر حرب قصيرة، شديدة ومباغتة، ومن ثم تكسب بضعة أعوام من الهدوء النسبي. لقد استغلت "إسرائيل" الهدوء والمكاسب التي حققتها في الحرب (الوقت، الأراضي، الردع، الاستقرار الاستراتيجي)، لتتحول من دولة صغيرة وفتية إلى قوة إقليمية عسكرية واقتصادية. 

بمعنى آخر استغلت "إسرائيل" فترات الروتين هذه جيداً للتطور والنمو، وتحولت من دولة صغيرة وضعيفة وفقيرة إلى قوة إقليمية من جميع النواحي. فإلى جانب تعاظمها الاقتصادي، تعززت إسرائيل عسكرياً، وضربت أعداءها مراراً وتكراراً، وهو ما جعل بعضهم يضعف ويتغير. صحيح أن الحروب الطويلة قد تعيق أعداءها عن التطور، لكنها كانت ستدمر الاستراتيجيا الإسرائيلية المبنية على فترات الروتين. إن هذا "الإدمان على الهدوء"، بحسب ما يسميه أحياناً معارضو الرؤية الأمنية الحالية لنتنياهو، ليس علامة ضعف، بل هو تطبيق للرؤية الأمنية الأكثر جدوى بالنسبة إلى "إسرائيل".

في رأي هؤلاء، أن الحرب على غزة خرجت عن العقيدة الأمنية العسكرية الإسرائيلية بشأن خوض حروب قصيرة، وأنها تدخل ضمن إطار "ظاهرة الحرب الطويلة" التي تتطلب إعداد الجيش الإسرائيلي والتزود بالسلاح وإعداد الجنود لحرب تستمر أعواماً. فهم يعارضون نظرية "الحرب طويلة الأمد"، ويرون أنها "لا تشكل حلاً لمشكلات إسرائيل ولن تُمكّنها من التوصل إلى النصر المطلق، بل قد توصلها إلى إخفاق تام إذا بقيت تطارد هذا النصر وقتاً أطول من اللازم من دون أن تفكر في حدود قوتها واقتصادها ومجتمعها".

يؤكد المعارضون لمفهوم الحرب الطويلة أن "إسرائيل" أضحت غارقة بالفعل في حرب استنزاف تتعارض مع نقاط قوتها الأساسية، أي توجيه ضربة ساحقة لأعدائها، وهي تكشف عن نقاط ضعفها، أي مسألة "طول النَفَس"، لذا "عليها العودة إلى المفهوم الأمني المتمثل بالحروب القصيرة في داخل أراضي العدو، والعودة إلى بناء الدولة والاقتصاد والمشروع الصهيوني عموماً". 

والأجدى استراتيجياً بالنسبة إلى "إسرائيل"، وفق رؤية هؤلاء، هو "إخراج الخصوم من الصورة وإزالة التهديدات التي يفرضونها على "إسرائيل" بالتدريج، إذ إن على "إسرائيل" أن تعمل بناء على استراتيجية تتماشى مع مفهوم أمنها القومي: حروب قصيرة وانتصار في كل معركة بدعم من القوى العظمى وتحالف إقليمي يشكل وزناً مضاداً للمحور المتطرف". بالنسبة إلى المنتقدين، تشن "إسرائيل" على غزة حرباً مستمرة بلا حدود زمنية، فضلاً عن طبيعة وشكل القتال الفريد، الذي يرتكز على مناورة برية واسعة وطويلة الأمد، ما يجعل الحملة العسكرية على غزة أكثر صعوبة وتعقيداً منذ بدايتها: حرب عصابات، واحتكاكٌ مع السكان المدنيين، وحاجةٌ متزايدةٌ لتلبية احتياجاتهم، وبالطبع، تحمّلٌ مستمرٌ للخسائر. 

تُصرّ الحكومة الإسرائيلية الحالية على إحداث تغيير جذري في غزة، لكنها من جهةٍ أخرى عالقة في حرب استنزاف طويلة، وتُروّج لمخططات تُعقّد الواقع من دون أن توضح للجمهور الإسرائيلي ما هو سقف الحرب الزمني، وما هي تكلفة احتلال القطاع بأكمله!، وهو سيناريو مُحتمل، يشمل التعامل مع مليوني غزيٍّ، وتحدٍّ أمنيٍّ مُستمر، وعبءٍ ثقيلٍ على قوات الاحتياط سيُفاقم التوترات الداخلية في "إسرائيل". 

لذلك ينصح منتقدو إطالة الحرب، الحكومة الإسرائيلية بالخروج من ورطة غزة، بما يسمح بالتعافي الداخلي الضروري للغاية للمجتمع الإسرائيلي، فحماس "لا تُشكل تهديداً وجودياً لأمن "إسرائيل"، والقضايا الوجودية هي التزام الدولة تجاه مواطنيها، وثقة المواطنين بها، والتماسك الداخلي لمواجهة التحديات العديدة".