الإمام موسى الصدر… غُيِّب جسدًا وحاضرٌ حضورًا لا ينطفئ

اسم موسى الصدر سيظل يعلو كالراية، يذكّر الأحياء بأن القادة الحقيقيين لا يموتون، وأن الغياب مهما طال لا يغلق أبواب الحلم ولا يطفئ جذوة النهضة.

0:00
  • السيد موسى الصدر.. مدرسة كاملة في الالتزام بالإنسان.
    السيد موسى الصدر.. مدرسة كاملة في الالتزام بالإنسان.

في صيف عام 2003، وبينما كانت المنطقة العربية تترنح تحت وقع الاحتلال الأميركي للعراق، وتبحث عن بوصلة تقودها وسط دخان الحروب وانكسار الأحلام، خرجت "الأهرام العربي" بعنوانٍ بدا كالصاعقة: موسى الصدر ما زال حيًا في سجون سبها.

لم يكن مجرد عنوان صحافي، بل أشبه بصوتٍ مدوٍّ اخترق جدار النسيان، وجرس إنذار دوّى في ذاكرة أُريد لها أن تنام، وصوت خُنق عمدًا منذ 1978 فإذا به يعود يتردّد في الفضاء، مذكّرًا أن الغياب لا يقتل الحقيقة، بل يؤجج حضورها.

لقد بدا الغلاف كمن يمسك بالمحراث في أرض جافة ليشقّ التربة الصلبة ويُخرج ما حاولوا دفنه لسنوات، فالقضية لم تكن مجرد لغز سياسي، بل كانت جرحًا مفتوحًا في قلب لبنان والعالم العربي، جرحًا يُعيد التذكير بأن رجالًا كبارًا يمكن أن يُغيَّبوا جسدًا، لكنهم يظلون أحياء في الضمائر.

لم يكن التحقيق الذي أعددته استدعاءً لقصة مضت، بل كان اقتحامًا لأسوار الصمت، وتمزيقًا لجدار الخوف والتواطؤ الذي أحاط باختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه. لقد أعاد العنوان إلى الواجهة ملفًا أرادوا له أن يُدفن، فإذا به يطل من جديد أكثر نزفًا وإيلامًا، كأنه يصرخ من بين الركام: أنا هنا، لم أغب، ولم تُطوَ صفحتي بعد.

وما إن صدر العدد، حتى اهتزت طرابلس وارتبكت القاهرة، إذ بلغ صداه أذن العقيد معمر القذافي نفسه، فغضب غضبًا عاصفًا، واتصل مباشرة بالرئيس حسني مبارك، الذي اتصل بدوره برئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام إبراهيم نافع، لينقل إليه استياء العقيد. وهناك، في مكاتب الأهرام العريقة، استُدعي رئيس تحرير الأهرام العربي أسامة سرايا، لتتحول القصة من تحقيق صحافي على صفحات مجلة إلى مواجهة مكتملة الأركان بين الصحافة والسلطة، بين الكلمة الحرة وجدار الاستبداد.

ومنذ تلك اللحظة، لم تعد قضية موسى الصدر مجرد ملف منسي، بل عادت لتصبح محكمة مفتوحة على التاريخ.

لقاء كشف لي الطريق إلى فكر الإمام

بعدما دوّى صدى التحقيق، وجدتني أمام دعوة خاصة من السيد صدر الدين الصدر؛ نجل الإمام المغيّب. لم يكن اللقاء بروتوكوليًا عابرًا، بل بدا كأنه فصل جديد في القصة، حيث امتزجت السياسة بالذاكرة، والصحافة بالوجدان.

جلس أمامي بوقار يشبه إرث أبيه، وفي عينيه ظلّ من الغياب الطويل. قدّم إليّ مجموعة من مؤلفات الإمام موسى الصدر، كما لو كان يسلّمني مفاتيح إلى عالمٍ لا يزال حيًا رغم محاولات الطمس. لم تكن تلك الكتب مجرد أوراق، بل نوافذ مشرعة على روحٍ كبيرة تنبض بالعدل وتفيض بالإنسانية.

كل صفحة كنت أقرأها كانت تزيح عن قلبي غبار الخبر العابر، وتقرّبني أكثر من جوهر الإمام: رجل يجمع بين صفاء الفقيه ونبض المفكر، بين حرارة الخطيب ورؤية الزعيم. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد قضية الإمام الصدر بالنسبة إلي مجرد ملف سياسي عالق، بل تحوّلت إلى رحلة وجدانية وفكرية رسمت معالمها كلماته، وأضاءت لي الطريق نحو معنى أعمق للسياسة والدين والإنسان.

من بين السطور… ملامح مشروع لم يكتمل

في مؤلفات الإمام موسى الصدر، لم أقرأ كلماتٍ عابرة، بل ملامح مشروع كبير توقّف فجأة عند منتصف الطريق. كان يرى أن الحرمان أخطر من الاحتلال، لأنه يسلب الإنسان قدرته على الصمود. لذلك، لم يكتفِ بالخطابة، بل أسّس مدارس تُعلّم، ومستشفيات تُداوي، ومؤسسات تُعيد إلى الفقراء موقعهم في الحياة.

آمن بأن العدالة الاجتماعية جسر الوحدة الوطنية، وبأن لبنان لا يقوم على الطوائف المتناحرة، بل على دولة تحتضن أبناءها جميعًا، واعتبر أن الوجود المسيحي والإسلامي في لبنان ليس خطَّ تماسٍ، بل خطّ حياة، به يستمر الوطن.

أما فلسطين، فكانت بوصلته التي لا تنحرف. لم يرها قضية حدود، بل قضية وجود، ورأى أن تحريرها مسؤولية الأمة كلها، لا عبء شعبٍ وحده. ولأجلها نسج خيوط علاقاته مع القادة العرب، وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر، الذي وجد فيه زعيمًا عربيًا صادق الانتماء، لا تحجبه الطوائف عن أفق العروبة الواسع.

الفراغ الكبير

حين غاب موسى الصدر، لم يغب رجل فحسب، بل غاب أفقٌ بكامله. كان لبنان في أمسّ الحاجة إلى من يجمع شتاته، والعرب في حاجة إلى قائد يوازن بين الإيمان والعقل، بين حرارة الموقف وحكمة الرؤية، فجاء اختفاؤه كطعنة في خاصرة الزمن، تركت الأمة تتخبط في عتمتها بلا منارة.

لم يكن الإمام زعيم طائفة، بل كان وعدًا بقيادة وطنية وعربية تحمل مشروع عدالة لا تُختزل في خطب، بل تتجسد في مؤسسات، وتنسج من تنوّع لبنان نسيجًا للوحدة لا للفرقة. وبغيابه، خسر لبنان صمّام أمانه، وخسرت الأمة رجلاً كان يمكن أن يكون جسرًا بين هوياتها المتعددة ووحدتها المنشودة.

وهكذا ظل اسمه، حتى وهو مغيّب، حاضرًا في الضمائر: رمزًا للقيادة التي لم تكتمل، وللمشروع الذي أُجهض قبل أن يؤتي ثماره، وللغياب الذي كلما امتدّ في الزمن، ازداد حضوره رسوخًا في الوعي الجمعي.

إرث يتجاوز الغياب

لقد تركت قراءاتي لفكر الإمام موسى الصدر أثرًا لا يُمحى في وجداني ومسيرتي. لم أجد فيه مجرد زعيم غُيِّب قسرًا عن المشهد، بل مدرسة كاملة في الالتزام بالإنسان، والانحياز للمحرومين، والبحث عن أفق جامع للأمة.

علّمني الإمام، عبر كلماته، أن السياسة ليست دهاءً ولا لعبة توازنات، بل مسؤولية أخلاقية ورسالة إنسانية، وعلّمني أن الدين، إذا لم يتحوّل إلى قوة للعدل والحرية، يفقد روحه وجوهره.

ومنذ ذلك الحين، ظلّ الإمام حاضرًا في كتاباتي ومواقفي، كصوتٍ يذكّرني بأن الأمة كانت تملك قادة قادرين على الجمع بين الإيمان والعقل، بين الأصالة والمعاصرة، بين الوطنية الصادقة والعروبة الرحبة.

وكلما استعدت صورته وذكراه، شعرت بأن غيابه لم يكن خسارة لطائفة أو لحزب، بل خسارة لأمة بأسرها كانت تبحث عن منارات تهديها في ليلها الطويل؛ فإذا بمصباحها الأشد توهجًا يُطفأ عند لحظة كان العالم العربي أحوج ما يكون إليها.

لكن اسم موسى الصدر سيظل يعلو كالراية، يذكّر الأحياء بأن القادة الحقيقيين لا يموتون، وأن الغياب مهما طال لا يغلق أبواب الحلم، ولا يطفئ جذوة النهضة.