الصين وأميركا... توافقات تكتيكية وصراع استراتيجي
تصر الصين على أنها بلد نامٍ له الحق في الحصول على معاملة نامية وتفضيلية، بينما ترى الولايات المتحدة أن الصين في مسعاها هذا تعمل على التهرب من مسؤولياتها تجاه العالم.
-
الصين لم تعد مجرد منافس.
"راقبوا بعقول باردة، وواجهوا الصعوبات برباطة جأش، وأخفوا بريقكم كسيف مغمد، واعملوا بصمت وانتظروا الفرصة"، بهذه الكلمات لخّص الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ طريقة الشعب الصيني في الوصول إلى نهضته.
لقد عملت الصين بصمت فبات الحديث عن مواجهتها شيء من الماضي، لذا لا بد للولايات المتحدة من التخلي عن مبدأ الإملاءات والشروع في مفاوضات أساسها الاعتراف بالصين كلاعب دولي لا يمكن التقليل من شأنه.
واليوم، يترقب العالم اللقاء المنتظر بين الرئيسين الصيني والأميركي في كوريا الجنوبية، وهو اللقاء الذي ذهب البعض إلى وصفه بـ "لقاء القرن"، نظراً لأهميته، ليس فقط على كلا البلدين، بل وعلى العالم كله.
الأجواء الايجابية التي نتجت عن المفاوضات بين البلدين أدت إلى انتعاش في الاقتصاد العالمي وأثارت آمالاً في قرب التعافي للاقتصادي الدولي.
اللجان المشتركة بين البلدين نجحت في رسم "اتفاق إطاري" الهدف منه وضع حد لتدهور العلاقات بين الجانبين، والبحث عما يمكن البناء عليه لمواجهة الحرب التجارية ومنع انفجارها بين أكبر اقتصادين في العالم.
هذه التوافقات (الفنية)، لا شك في أنها ستصطدم بجدار السياسة ومشكلاتها المتشابكة، ما يعني أنه لا يمكن توقع حل جميع الخلافات بين البلدين، وكل ما يمكن تحقيقه هو التوافق على منع تدهور العلاقات الاقتصادية بينهما على المدى القريب، فيما تبقى الخلافات الاستراتيجية معلقة.
الصين لم تعد مجرد منافس...
لم يعد الحديث عن المنافسة بين الصين وأميركا أمراً مقبولاً، وخاصة أن الولايات المتحدة تصنف أعداءها المحتملين في ثلاثة مستويات (منافس – تحدٍّ- تهديد)، وباتت ترى أن الصين هي مصدر التهديد الأول لها. كما أن أميركا لا تتحلى بأخلاق المنافسة، بل تعمل على عرقلة نمو الصين بكل ما أوتيت من قوة.
في السياسة هناك دوماً عناوين عريضة وهناك تفصيلات، وبالتطبيق على ما يجري بين الصين والولايات المتحدة يكون العنوان العريض هو الصراع على القمة، أما باقي الملفات فليست سوى تفصيلات يمكن التوصل إلى توافقات حول بعضها، تؤدي في المحصلة إلى تبريد الصراع مؤقتاً وتأجيل المواجهة.
تأجيل المواجهة "مكسب صلب" بالنسبة لبكين، وخاصة أن الوقت يسير في مصلحتها، وكل المؤشرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية تؤكد ذلك. وبالتالي فكلما استطاعت تأجيل المواجهة، فيما لو كانت تلك المواجهة حتمية، فإن ذلك سيقلل من خسائرها.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أننا نعيش لحظة حرب باردة جديدة هي أخطر وأكثر عمقاً من الحرب الباردة القديمة التي كانت بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.
حجم الاقتصاد السوفياتي لم يكن يتجاوز 40% من حجم الاقتصاد الأميركي في حينه، بينما يقترب حجم الاقتصاد الصيني من نظيره الأميركي أو يتفوق عليه وفقاً للكثير من الدراسات إذا ما أخذنا في الحسبان سعر الصرف والقوة الشرائية لليوان الصيني.
خلال الحرب الباردة بقي كثير من دول العالم خارج ذلك الصراع، أما اليوم فإن جميع الدول سوف تتأثر، نظراً لتزايد حجم التداخلات الاقتصادية الدولية، وتحول الاقتصاد الدولي إلى ما يشبه "الأواني المستطرقة"، فما يحدث في دولة سوف تنتقل مفاعيله إلى باقي الدول، ولعل الحرب الأوكرانية خير دليل على ذلك. حيث تأثر العالم كله بما حدث في أوكرانيا.
الحرب الباردة الجديدة هي بين الصين والولايات المتحدة، وهي حرب ترقى إلى مستوى الصراع متعدد الجوانب، والذي يسعى كل طرف من خلاله إلى إضعاف الآخر، مع ضرورة التركيز على ألّا يتحول هذا الصراع بينهما إلى "صراع صفري"، لما يحمله ذلك من تبعات على البلدين أولاً، وباقي دول العالم ثانياً.
محصلة هذا الصراع ستؤدي إلى معرفة من سيقود العالم في المستقبل، مع التأكيد أن الصين لا تريد تحمل نفقات قيادة العالم، لكنها تريد أن يكون لها موقع الصدارة فيه، ما يعني في المحصلة أنها لا تريد تكرار النموذج الأميركي.
الفلسفة الأميركية في قيادة العالم قامت على "مبدأ القوة" التي كرستها النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، بينما تسعى الصين إلى تكريس "النظرية الاعتمادية"، التي تقوم على مبدأ التعاون والتكامل بين الدول، وصولاً إلى تحقيق معادلة "رابح رابح" للجميع.
صيننة التجارة الدولية جعلت واشنطن تعيش العالم التجاري الذي صنعته الصين، وجعلت الاقتصاد العالمي محكوماً برأسمالية الدولة القومية الصينية، وهو ما لن تقبله الولايات المتحدة، وستسعى بما أوتيت من قوة للعمل على تغييره.
فرانكشتاين الصيني...
الولايات المتحدة ترى أنها تواجه عدواً هي التي صنعته (الصين)، فالرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر هم أول من أدخل المصانع الأميركية إلى الصين في محاولة لفصلها عن الاتحاد السوفياتي.
ثم جاء الرئيس ريغان الذي عمل على إضعاف كل من ألمانيا واليابان حيث أجبرهما على رفع قيمة عملتيهما في مواجهة الدولار الأميركي، ما رفع ثمن منتجاتهما، وفي المحصلة أخرجهما من دائرة المنافسة مع الصين.
أما كلينتون فقد دعم انضمام الصين إلى منظمة التجارة الدولية، وفي عهده انتقلت معظم المصانع الأميريكية والغربية إلى الصين، واستمرت كذلك في عهد جورج بوش الابن وأوباما.
لقد كان حجم الاقتصاد الصيني في العام 1989 لا يتجاوز 347 مليار دولار، فيما تجاوز الـ 20 تريليون دولار في العام 2024، أي أنه تضاعف أكثر من 57 مرة خلال ثلاثة عقود فقط.
الاقتصاد الصيني قائم في جزء كبير منه على التصدير، وتسهم الصين بـ 30% من القيمة المضافة في صناعات العالم، بمعنى أن 30% من صناعات العالم تأتي من الصين، وهو رقم كبير جداً، كما أن صادرات الصين تنمو بما يعادل ثلاثة أضعاف حجم نمو التجارة الدولية.
تصر الصين على أنها بلد نامٍ له الحق في الحصول على معاملة نامية وتفضيلية، بينما ترى الولايات المتحدة أن الصين في مسعاها هذا تعمل على التهرب من مسؤولياتها تجاه العالم، وأنها تسعى لتحديد ملامح النظام التجاري الدولي وفقاً لرؤيتها وبما يخدم سياساتها.
تقوم الصين بأسرع عملية تسليح، لا في العصر الحالي فقط، بل عبر التاريخ كله، وتهتم بتطوير قدراتها البحرية، حيث باتت تمتلك 380 سفينة بحرية مقابل 300 سفينة أميركية، بمعنى أنها تقدمت على أميركا في هذا المجال.
اهتمام الصين بالقوة البحرية يعود إلى توقع التهديد من منطقة البحار المحيطة بالصين، حيث توجد القواعد الأميركية في تلك الدول، وحيث تايوان التي تؤمن الصين بحتمية عودتها إلى الوطن الأم.
17 عنصراً نادراً منها 7 عناصر مهمة جداً لكل ما يتعلق بصناعة التكنولوجيا الحديثة، بدءاً من الموبايل مروراً بالسيارات الكهربائية والطائرات المسيرة وغيرها، تمتلك الصين أكثر من 80% منها، ومنعت تصدير سبعة منها إلى أميركا، ثم زادت الرقم إلى 12.
تثير الولايات المتحدة قضايا الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وتتهم الصين بسرقة حوالي 600 مليار دولار سنوياً في هذا الإطار.
وهذا الرقم يعادل تقريباً حجم العجز التجاري الأميركي مع الصين. مع الإشارة هنا إلى أن بكين ملتزمة بهذه الاتفاقيات، وتعمل وفقاً لما يسمح به القانون، حيث تجري بعض التعديلات البسيطة على المنتجات، فيمكن اعتبارها منتجاً جديداً.
تتهم أميركا الصين بالتجسس الاقتصادي عليها في الداخل والخارج، وخاصة في الدول المحيطة بأميركا (كندا والمكسيك)، وبتجنيد بعض كبار السياسيين في هذه الدول للمساعدة في التجسس على واشنطن، وهو ما تنفيه بكين دوماً وتطالب واشنطن بتقديم الدليل.
كذلك تتهم واشنطن الصين بشن الحروب السيبرانية على بعض المؤسسات الأميركية، وأنها تسعى للسيطرة على المصانع الأميركية والأوروبية في الصين، والتي تقدّر قيمتها بالتريليونات، وهو ما يجعل من إمكانية شن أي حرب على الصين شبه معدومة.
بينما يسعى ترامب لفصل كل من الهند وروسيا عن الصين، عملت الصين على زيادة الهوة بين كل من كندا والمكسيك وأوروبا مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يعد تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي.
التقارب الثلاثي ( الصيني الهندي الروسي) وخطره على أميركا...
الدلائل كثيرة على ولادة محور جديد بين موسكو وبكين ونيودلهي، ففي قمة تيانجين الأخيرة جلس الزعماء الثلاثة على طاولة واحدة، فيما بدا أنه أكثر من مجاملات بروتوكولية.
قبلها بأسابيع زار رئيس الوزراء الهندي بكين في زيارة هي الأولى منذ سبع سنوات من القطيعة والخلافات الحدودية، وهي الزيارة التي وصفتها الصحافة الغربية بـ "عودة التنين والفيل إلى الرقص معاً".
الصين تريد كسر الهيمنة الأميركية، بينما تسعى موسكو لفك العزلة الدولية ومواجهة العقوبات الأميركية التي فُرضت عليها، في حين أن الهند تريد أن تعامل بما يتناسب مع حجمها الحقيقي الذي وصلت إليه.
الصين عززت تعاونها التجاري مع الهند، ففتحت باب التأشيرات وأعادت الرحلات الجوية بين البلدين بعد سنوات من الإغلاق.
شحنات النفط الروسية إلى الهند لم تتوقف بسبب العقوبات الأميركية، بل ازدادت بشكل غير مسبوق، وهو ما جعل جون بولتون يقول: إن أخطر تهديد يواجه أميركا في القرن الحادي والعشرين ليس الصين وحدها، بل المحور الثلاثي الذي يضم بكين وموسكو ونيودلهي.
في الأمم المتحدة وضع ترامب ترامب النقاط على الحروف بتصريحه أن الصين والهند تموّلان الحرب في أوكرانيا، وأعاد التحذير من التحالف الجديد بين الصين وروسيا والهند.
تلك الأسباب وغيرها جعلت ترامب يتجه إلى آسيا عله يجد حلاً لمشكلات بلاده المستعصية، في محاولة منه لإقناع الصين وتحقيق أي نوع من الانتصارات الواهية التي يبحث عنها.