تحوّل الدور الأميركي في لبنان: من الوساطة إلى إدارة الهيمنة
منذ ما بعد وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2024، تحوّل الدور الأميركي إلى دور "المُنسّق-المدير" الذي يسعى إلى ضمان تفوّق "إسرائيل" التكتيكي من دون تفجير حرب، وإبقاء لبنان تحت سقف المراقبة والضبط.
-
تحوّل الدور الأميركي في لبنان: من الوساطة إلى إدارة الهيمنة
نقلت قناة "كان" الإسرائيلية عن مسؤولين إسرائيليين أنّ ضباطاً أميركيين موجودون حالياً داخل مقرّ القيادة الشمالية في صفد، ويتابعون العمليات على لبنان لحظة بلحظة، ما يعني أنّ العمليات العسكرية في لبنان تتمّ بالتنسيق مع الأميركيين.
شهد الدور الأميركي في لبنان خلال الأشهر الأخيرة تحوّلاً نوعياً، حيث انتقل من موقع "الوسيط الدبلوماسي" الذي يسعى إلى احتواء التصعيد بين "إسرائيل" وحزب الله، إلى موقع "الشريك المباشر" في إدارة ميزان القوى على الجبهة اللبنانية ـــــ الإسرائيلية، حيث تسعى الولايات المتحدة الى ترتيب مكوّنات النظام الإقليمي الفرعي (خاصة في المشرق العربي) ليتوافق مع هندستها الإقليمية الأوسع في الشرق الأوسط الموسّع الذي يمتد من إيران وصولاً إلى المغرب العربي، مروراً بالخليج.
ومنذ ما بعد إعلان وقف النار في غزة، بدأ الدور الأميركي يتخذ طابعاً ميدانياً واستراتيجياً أكثر انخراطاً، يمكن قراءته ضمن أربعة مسارات مترابطة:
1. هندسة الردع والانتقال إلى "إدارة النظام"
يعكس الوجود الميداني للوحدات الأميركية في صفد، والإدارة الأميركية للجنة وقف النار (الميكانيزم)، ووجود جنود أميركيين على حدود القطاع مع غزة، وزيارات أميركية للمحافظة على الهدوء في غزة، انتقال الأميركيين من موقع المراقب إلى "مدير للنظام". لم تعد الولايات المتحدة تكتفي بدعم "إسرائيل" سياسياً وعسكرياً واستخباراتياً، بل أصبحت طرفاً فاعلاً في تنظيم قواعد الاشتباك ومراقبة وقف النار.
هذا الدور يتجاوز مفهوم "إدارة الأزمة" التقليدي إلى "هندسة البيئة الاستراتيجية" ذاتها، حيث تفرض القوة العظمى قواعد اللعبة وتحدّد المسموح به وغير المسموح.
ومن خلال الحضور العسكري والدبلوماسي والتهديدات بالعواقب، والضغوط على لبنان للتفاوض المباشر، تمارس الولايات المتحدة شكلاً من "الردع بالنيابة"، مما يرفع التكلفة المتوقّعة لامتناع اللبنانيين عن الخضوع للشروط الأميركية ونزع سلاح حزب الله، ويضمن بقاء التوتر تحت سقف السيطرة الأميركية.
2. الدبلوماسية القسرية
تعتمد الولايات المتحدة في مقاربتها للبنان ما يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ "الدبلوماسية القسرية" (Coercive Diplomacy)، أي المزج بين التفاوض والضغط لتحقيق أهداف سياسية من دون اللجوء إلى الحرب.
تسعى الولايات المتحدة عبر مبعوثيها (توم برّاك ومورغان أورتاغوس) إلى فرض إيقاع تفاوضي جديد على لبنان، بحيث لا تكون المحادثات حول ترسيم الحدود أو تنفيذ القرار 1701 شأناً لبنانياً ـــــ إسرائيلياً فقط، بل جزءاً من رؤية أميركية أشمل. هذا المسار التفاوضي لا يعكس وساطة تقليدية، بل يتمّ استخدام التهديد الضمني بالقوة والحرب ودفع أثمان باهظة (بحسب تعبيرات توم برّاك) لدفع لبنان نحو قبول الشروط الإسرائيلية ـــــ الأميركية.
3. التهديد كاستراتيجية هيمنة
ما زال لبنان ـــــ بنظر الأميركيين ـــــ جزءاً من استراتيجية أميركية ـــــ إسرائيلية لتقليص نفوذ إيران وإنهاء محور المقاومة. من هذا المنظار، فإنّ قيام الأميركيين بضبط التوازن بين "إسرائيل" وحزب الله يخدم استراتيجية "إدارة التهديد" لا القضاء عليه. هذه الاستراتيجية تشير إلى أنّ الولايات المتحدة لا تريد حرباً شاملة، لكنها في الوقت نفسه لا تسعى لسلام فعليّ في لبنان حالياً؛ بل تفضّل حالة التوتر المحسوبة.
هذا التوازن المقصود يندرج ضمن ما يسمّيه منظّرو العلاقات الدولية بـ "الهيمنة غير المباشرة"، حيث تُبقي القوة المهيمنة النظام الإقليمي في حالة توتر محسوب يسمح لها بالتحكّم في وتيرة الصراع واتجاهاته.
هذا النهج يحوّل لبنان إلى "ورقة ضغط" في الملفات الإقليمية الأوسع، وهو نموذج كلاسيكي للهيمنة غير المباشرة، حيث تُستخدم الدولة الضعيفة كأداة في صراع القوى الإقليمي والعالمي.
4. هندسة الوعي كأداة للهيمنة
حالياً، يتمّ شنّ حرب نفسية وإعلامية شرسة على لبنان تلاقي العدوان الإسرائيلي المستمر منذ ما بعد وقف إطلاق النار، حيث يتمّ تهديد اللبنانيين بحرب إسرائيلية كبرى وعقوبات وعزل وحصار في حال لم يتمّ نزع سلاح حزب الله ـــــ وهو هدف إسرائيلي وشرط للبدء بعملية التفاوض. هذا النمط من الخطاب يهدف إلى خلق ما يسمّيه أنطونيو غرامشي بـ "اللحظة المهيمنة" (Hegemonic Moment)، أي تلك اللحظة التي تصبح فيها شروط القوة الكبرى مقبولة اجتماعياً بوصفها "الخيار الواقعي" أو "المنطقي".
وهكذا، يتمّ تقديم الشروط الأميركية في لبنان على أنها "منطقيّة" أو "الخيار الواقعي الوحيد"، مع العلم أنّ الأميركيين يسعون إلى إدارة الوعي العامّ من خلال خطاب مزدوج: إعلان دعم الاستقرار في لبنان، مع التغطية العملية على الضربات الإسرائيلية ووصفها بـ "الردّ الدفاعي". هذه السياسة تهدف إلى إبقاء البيئة اللبنانية في حالة ارتباك وضغط دائم، مما يجعل القبول بأيّ تسوية ترعاها واشنطن أمراً "واقعياً ومطلوباً"، وبالتالي إخضاع اللبنانيين للشروط الإسرائيلية.
في الخلاصة، منذ ما بعد وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2024، تحوّل الدور الأميركي إلى دور "المُنسّق-المدير" الذي يسعى إلى ضمان تفوّق "إسرائيل" التكتيكي من دون تفجير حرب، وإبقاء لبنان تحت سقف المراقبة والضبط لتحقيق ما يمكن تسميته "بالاستقرار التابع" وهو استقرار مصنوع ومُدار من الخارج، يخدم المصالح الجيوسياسية الأميركية ويحافظ على هيمنة "إسرائيل" الإقليمية، من دون أن يخدم بالضرورة مصلحة اللبنانيين أو يحقّق سلاماً عادلاً ومستداماً.