حكومة نتنياهو، إجراءات وتشريعات تُعمّق الانقسام وتسرّع الصدام...!

 بعد أشهر قليلة من السابع من أكتوبر، رفع الإسرائيلييون شعار "معاً ننتصر" وكان واضحاً أنه لم يكن إلا شعاراً عابراً سرعان ما سقط لتعود الانقسامات المجتمعية التي كانت سائدة قبل الحرب.

0:00
  •  الائتلاف اليميني استوعب التحدي المفروض عليه!
    الائتلاف اليميني استوعب التحدي المفروض عليه!

أفرزت صيرورة "إسرائيل" في العقدين الأخيرين اليمين الرديكالي الذي يحكمها الآن والذي بدأت تتشكل ملامحه قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. سعى الائتلاف الإسرائيلي مُنذ توليه الحكم إلى إحداث تعديلات على الجهاز القضائي فيما عرف حينها "بالانقلاب القضائي"، الذي عُلّق بفعل الاحتجاجات العارمة التي اجتاحت "إسرائيل".

ومع اندلاع الحرب، على إثر أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدا أن الائتلاف اليميني قد استوعب التحدي المفروض عليه، فدُفع "الانقلاب القضائي" الذي فرّق الإسرائيليين إلى الهامش، وشُكّلت حكومة موسعة بمشاركة حزب "معسكر الدولة"، الذي اشترط على نتنياهو عدم طرح تشريعات جدلية في كنيست الاحتلال إلا بموافقة جميع أحزاب الائتلاف. لكن هذا لم يمنع اليمين المتطرف بشقّيه، نتنياهو وقيادات المتدينين الحريديم، واليمين الديني القومي، مستغلّين أجواء الحرب، من اتخاذ اجراءات وتدابير واسعة، قادرةٍ على استدامة حكمهم وفرض صورة نظام سياسي يتناسب مع استراتيجيتهم وأجندتهم.

 بعد أشهر قليلة من السابع من أكتوبر 2023 رفع الإسرائيلييون شعار "معاً ننتصر" وكان واضحاً أنه لم يكن إلا شعاراً عابراً سرعان ما سقط لتعود الانقسامات المجتمعية التي كانت سائدة قبل الحرب إلى الظهور، وبقوة، وإن ظلت نارها تخبو وتتصاعد في أوج الحرب، مع كل محطة أثيرت فيها إحدى القضايا المجتمعية الخلافية.

والواقع أن هنالك فجوات عميقة في وجهات النظر المتباينة جوهرياً بين مختلف المعسكرات السياسية، مرتبطة بالعديد من المتغيرات الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية، ربما، باستثناء الأمنية منها المتعلقة بالموقف من القضية الفلسطينية والتي تحظى بإجماع مختلف أقطاب الخارطة السياسية الإسرائيلية، وكان واضحاً أنه من غير المرجح أن يبدأ جميع الإسرائيليين "بالعِناق" فجأةً لمجرد وقوع ما سمّوه "مأساة مروّعة". 

ونظراً لوجود أيدلوجيات مختلفة، حاول الإسرائيلييون الاتفاق على قواعد وآليات لإدارة الخلافات، وكان من المفترض أن تُقدم "الديمقراطية الإسرائيلية" ظاهرياً إجابات، لكن في ظل غياب الدستور المكتوب تُرك الباب مفتوحاً أمام خيارات سن التشريعات والقوانين لمصلحة الأغلبية الحاكمة، أو لاستصدار قرارات قضائية للفصل في القضايا القانونية المتعلقة بالسياسة العامة في المسائل محل النزاع العام، أو للتوصل إلى تسويات أو توافقات اجتماعية قلما حدثت، وهو ما عمّق الخلافات القائمة عوضاً عن تخفيفها أو حلها.

مع افتتاح الدورة الشتوية الحالية لكنيست الاحتلال قبل أسبوعين، أعاد الائتلاف الإسرائيلي الحاكم طرح سلسلة من مشاريع القوانين التي تهدف إلى تعزيز مكانة رئيس الوزراء وتقييد الجهاز القضائي، فضلاً عن إزاحة الخصوم؛ بدءاً من محاولة إلغاء جلسات محاكمة نتنياهو وصولًا إلى طرح تقسيم مهام النائب العام للدولة، ما يعني، عملياً، أن الحكومة لم تكفّ عن محاولة الترويج للانقلاب القضائي، كما لو أن عامين من دعوات الوحدة في خضم الحرب لم تكونا.

ويبدو أن التكتيك الذي اتبعته حكومة نتنياهو، في خضمّ الحرب ومع اقتراب نهايتها، هو التصعيد التدريجي عبر اتخاذ إجراء أحادي في هذا الشأن أو ذاك، أو تقديم مشروع خِلافي مثير للجدل هنا وهناك، لتمهيد الطريق للانتقال إلى حزمة المشاريع "الانقلابية" الكاملة، خاصةً بعد أن توقف القتال وأُزيلت العوائق أمام المضي في تشريعها.

ومع تراجع الانتقادات العلنية للحرب، التي توقفت، وإن مؤقتاً، يشعر ائتلاف نتنياهو بأن لديه تفويضاً أكبر لتعزيز ما عَلّقه مؤقتاً أيضاً، خاصة في خضمّ عام انتخابي تُسابق فيه الأحزاب السياسية الزمن للفوز بأصوات الناخبين وفرض حقائق ووقائع "قانونية"، تخدم أجندة اليمين الذي قد لا يعود إلى الحكم في الانتخابات المقبلة. 

في الواقع، ومن استقراء مواقف الإسرائيليين فيما يتعلق بأداء حكومتهم وثقتهم بمؤسسات الدولة، فإننا نجد فجواتٍ كبيرة، خاصة في الموقف تجاه نتنياهو شخصياً، بما لا يعزز إمكان بناء توافق اجتماعي حول القضايا المتنازع عليها من خلال سن التشريعات الحكومية أو اللجوء إلى النظام القانوني في القضايا العامة التي تتسم بحساسية اجتماعية، ما يؤشر إلى أن "إسرائيل" ستشهد عواصف من النضال القانوني والشعبي وربما تظاهرات واحتجاجات واسعة لمنع سن هذه التشريعات، التي تسعى في غالبيتها إلى تعطيل مقدرة النظام القضائي الإسرائيلي على النظر في قضايا عامة حساسة، تُثير نزاعات قيمية حادة بين الجمهور. 

وحتى من دون تدخل الحكومة، فإن العملية القانونية التخاصمية، التي تسعى إلى اتخاذ قرارات ثنائية، يَصعُب فيها التعامل مع القضايا ذات "الطابع العام" التي تنطوي على نزاع اجتماعي، فلا مجال لقرار حاسم من المحاكم، ولا يتوفر الإجماع المجتمعي حولها في حال سُنّت لأجلها تشريعات حكومية، خاصة وأن دائرة المشاركين في النقاش حولها لا تتجاوز الأطراف الرسميين ذوي الأغلبية البرلمانية الشريكة في الحكومة. 

وفيما يرفع كل طرف من أطراف الصراع الداخلي الإسرائيلي شعار "وحدة الشعب الإسرائيلي كقيمة وطنية وأصل استراتيجي في محيط عربي وإسلامي مُعادٍ"، تتعاظم الظواهر التي تؤجج مشاعر الكراهية تحت شعار "منع الانقسام في الشعب" وهي في الحقيقة لا تجلب إلا مزيداً من الانقسام والتشرذم. فالخطاب السياسي العنيف والمستَقطِب ما زال سِمة أساسية في المجتمع الإسرائيلي، بل وتصاعدت حدته بين المعسكرين في فترة ولاية حكومة نتنياهو الحالية. لكن المشكلة لم تكن في طبيعة الخطاب فحسب، بل في قُطبية الخلاف أيضاً؛ فكل قضية عامة تقريباً كانت محل خلاف بين الائتلاف والمعارضة.

ويبدو أن حكومة نتنياهو التي تستمر في التصرف بطريقة استقطابية، لا تسعى إلى إخماد نيران خطاب الكراهية وتذهب في تصعيد تحكّمها في الميزانيات والمواقف والقرارات التي تُشكّل أساس الخلاف السياسي، بما يَسمح لها بتعزيز المصالح الضيقة للأحزاب الأعضاء في الائتلاف، في مقابل، قمع أي انتقاد لأفعالها من طرف مُعارضيها.

وما قضية المدعية العامة العسكرية، التي تأخذ اليوم حيّزاً كبيراً من النقاش والجدل الداخلي الإسرائيلي؛ سوى مثال حيّ على حجم الاستقطاب والتجاذبات الداخلية غير المسبوقة، حيث يتصاعد سقف التحريض ولغة الاستعداء من هذا الطرف تجاه الآخر، من دون أن تَظهرَ بوادر لإمكان تنازل أي منهما للآخر.  

فاليمين الصهيوني الحاكم يرى في هذه القضية فرصة سانحة "دسمة" لملاحقة وسحق خصومه، وتحديداً في الجهاز القضائي والنيابة العامة، رافعاً شعار "الإضرار الشديد بصورة إسرائيل وسمعتها"، والمعارضة ترى في تحريض اليمين ولغته التخوينية فرصة لتفزيع المجتمع وتجنيده خلفها لكبح تغوّل اليمين، رافعة فزاعة "الاغتيال الجسدي والسياسي" الذي يمارسه نتنياهو وجماعته تجاه كل من يعارضهما.

ولعل ما ورد في كتاب "ميزة الديمقراطية"، الذي ألّفه أناتولي شارانسكي بالشراكة مع رون ديرمر، مستشار نتنياهو، مِن وصفٍ لاستغلال الأنظمة غير الديمقراطية للعدو الخارجي لتعزيز سيطرتها الداخلية، حين قالا: "من المرجح أن تمنع الحاجة إلى إظهار الوحدة والاستقرار في وجه العدو لا التعبيرات الجماعية عن السخط فقط، بل أيضاً خطوات داخل الحكومة نفسها لاستبدال القيادة الحالية"، ما يدفع إلى تعالي الأصوات الإسرائيلية المُحذّرة من أن مسار "إسكات الانتقادات" الذي تسلكه حكومة نتنياهو يُشكل خطراً حقيقياً عليها وعلى نظامها السياسي ومجتمعها، إذ لا يُمكن المطالبة بتخفيف حدة الانتقادات إلا حين تمتنع الحكومة نفسها عن اتخاذ أفعال ومواقف مدفوعة بمصلحة سياسية حزبية واضحة.

وإذا كانت الحكومة الحالية، وفق مُنتقدين، غير راغبة، أو غير قادرة، على التصرف لمصلحة غالبية الجمهور الإسرائيلي، فإنها تفقد المبرر، السياسي والأخلاقي، لمطالبة خصومها بعدم بذل أفضل ما في وسعهم، عبر الخطابات والتظاهرات، لكبح سلوكها.