في "إسرائيل الكبرى" المُفترضة... القادة العرب مجرّد ولاة

يحاول بنيامين نتنياهو أن يستفيد من الإرث النظري الذي تركه أسلافه ليؤسّس مشروعه الذي يعكس رؤيته لـ "إسرائيل الكبرى".

0:00
  •  فكرة
    فكرة "إسرائيل الكبرى" لا ينحصر تنفيذها بالهيمنة المطلقة على الجغرافيا.

في مقابلته الأخيرة على "i24" لم يتردّد بنيامين نتنياهو في الإفصاح عن التزامه الشخصي بفكرة "إسرائيل الكبرى" كمشروع روحاني سياسي يشكّل العمل من أجل تحقيقه استكمالاً لتضحيات وجهود الأجيال السابقة. وإذا كان من الممكن تحليل رؤية نتنياهو لهذا المشروع فقد ظهر أنه يتجاوز مجرّد بعد سياسي حيث يضعه في سياق أيديولوجي سبق أن سوّق له مؤسس الحركة التنقيحيّة أو التصحيحيّة الصهيونيّة فلاديمير جابوتنسكي، أي بما يتخطّى في مفهومه وأبعاده المشروع الذي سوّق له تيودور هرتزل على أسس تركّز على فكرة إقامة وطن قومي للشعب اليهودي، مع الإشارة إلى إمكانية التفاوض على حدوده أو مكانه. 

فالفكرة التي يؤمن بها نتنياهو والتي يستلهمها من مرشده الروحي جابوتنسكي يتمّ التسويق لها على أنها أكثر توافقاً مع ما تدّعيه الوعود التوراتية التي اعتبرت أنّ حدود "إسرائيل" ستتكرّس من النيل إلى الفرات. وعليه، يمكن النظر إلى مشروع "إسرائيل الكبرى" وفق رؤية نتنياهو على أنها تمزج بين البعد التوراتي ذي الطابع الديني اللاهوتي وبين البعد السياسي الذي يرى في جهود القادة الصهاينة، التي اكتفت في المراحل الأولى بالحديث عن جغرافيا فلسطين التي حدّدها الانتداب بموجب اتفاقية سايكس بيكو فقط، مجرّد مناورة لا تعبّر في مضمونها عن حقيقة المشروع الذي عبّر عنه جابوتنسكي لاحقاً.

بالنسبة لنتنياهو يفترض بما سبق ألّا يُفسّر على أنه تفضيل لأفكار جابوتنسكي على حساب أفكار تيودور هرتزل، إذ إنه من غير الواقعي التفريق بين مستوى ارتباط كلّ من هرتزل وجابوتنسكي بالأفكار التوراتية التي يمكن تعريفها بمشروع من النيل إلى الفرات. غير أنّ الذي يمكن اعتباره فارقاً بينهما هو في الظروف الموضوعية التي كانت حاكمة حين طرح كلّ منهما مشروعه. 

فإذا كان من الممكن القول إنّ تيودور هرتزل هو الأكثر انفتاحاً أو براغماتية حيث سعى لإظهار عدم تعارض مشروعه بإقامة وطن قومي لليهود مع مصالح السكان الأصليين، فذلك نتيجة الواقع الذي يفترض الإيحاء بحرص اليهود على طمأنة القوى الدولية بأنّ مطلبهم لا يخرج عن كونه مطلباً إنسانياً. وعليه يمكن القول إنّ المشروع الذي طرحه تيودور هرتزل لم يكن سوى مرحلة انتقالية أو تحضيرية تؤسّس حتماً لمشروع "إسرائيل الكبرى" الذي نظَر إليه جابوتنسكي.

لا ينظر نتنياهو إلى نفسه على أنه من المنظّرين اليهود ليقينه بأنّ القائد الذي سيحقّق حلم بني إسرائيل سيترك في الوعي الجماعي لليهود أثراً أكبر من آثار أصحاب النظريات. وعليه يحاول بنيامين نتنياهو أن يستفيد من الإرث النظري الذي تركه أسلافه ليؤسّس مشروعه الذي يعكس رؤيته لـ "إسرائيل الكبرى". في هذا الإطار يستند نتنياهو على أفكار كلّ من هرتزل وجابوتنسكي بتحريم التنازل عن أيّ مساحة من مساحة فلسطين التاريخية حيث يعتبر أنّ اتفاقية أوسلو تمثّل خيانة إسحاق رابين للحقّ اليهودي. 

في عام 2005 أعلن نتنياهو عن رفضه لخطة شارون التي قضت بسحب نحو 8000 مستوطن من غزة حيث استقال من حكومة شارون التي شغل فيها منصب وزير المالية، ثم وافق بعد تولّيه رئاسة الحكومة بين عامي 2009 و2020 على بناء أكثر من 23000 وحدة استيطانية في الضفة، ليعلن بعد طوفان الأقصى التزامه بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة بالتوازي مع العمل على إفراغ قطاع غزة من ساكنيه تحت وطأة القتل الممنهج الذي يرتقي إلى مستوى جريمة إبادة بشرية.

لم تعد قضية حلّ الدولتين موضع نقاش في الداخل الإسرائيلي حيث أمكن لمس نجاح بنيامين نتنياهو في تحقيق إجماع كامل حول سقوط كلّ الاعتبارات الداعمة لها. فالنقاش يتمحور اليوم حول كيفيّة ترتيب البعدين الداخلي والخارجي للكيان. فإذا كان بنيامين نتنياهو يحظى بدعم التيار الشعبي أو السياسي الذي يهيمن اليوم في الكيان لناحية التنكّر لوجود شعب فلسطيني ورفض الحديث عن أيّ حقوق أو امتيازات، واعتباره مجرّد أقلية مهاجرة أو سكان محليين. وبالتالي تنحصر خيارات التعاطي مع الفلسطينيين بين من يريدهم أشبه بقوة عاملة منزوعة الهوية الجماعية وبين من يريد العمل على ترحيلهم خارج المساحة المركزية للكيان، أي فلسطين التاريخية، وذلك عبر التضييق الاقتصادي وهدم البيوت وجعل حياتهم اليومية شبه مستحيلة. فإنّ البعد الخارجي للكيان يفرض نوعاً من التمايز في الرؤى بين أطياف الكيان السياسية والشعبية.

فإذا كان من الممكن اعتبار الحلول المطروحة في مواجهة الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية التخلّي عن الهوية الجماعية والخضوع أو الترحيل واقعية يمكن تحقيقها انطلاقاً من القدرة العسكرية والدينامية الملموسة فيما خصّ التوسّع الاستيطاني، من دون أن ننسى الغطاء الدولي الذي تؤمّنه الولايات المتحدة، والذي يمكن ترجمته قبولاً ضمنياً بموضوع يهودية الدولة على أرض فلسطين، فإنّ ما يستهدفه الإسرائيليون خارج حدود فلسطين التاريخية يشكّل منطلقاً لنقاش أو اختلاف حول واقعية السيناريوهات المطروحة وكيفيّة تحقيقها.

في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى إجماع إسرائيلي حول ضرورة فرض الهيمنة والسيطرة الأمنية والسياسية على المحيط الإقليمي لفلسطين المحتلة. غير أنّ ما يشكّل موضوعاً للاختلاف هو في الكيفيّة التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف. فإذا كان اليمين المتطرّف يؤمن بالقوة المطلقة ويفضّل استخدام القوة الخشنة متسلّحاً بما يملكه الكيان من قدرات ومن قنوات دعم غير محدودة مسترشداً بأفكار جابوتنسكي التي تقول بأنّ حلم "إسرائيل الكبرى" لا يتحقّق إلا بالقوة العسكرية والحسم. فإنّ لنتنياهو تفسيراً قد يكون مختلفاً عن أفكار جابوتنسكي. 

فمن خلال الاعتقاد بعدم إمكانية تحقّق حلم الهيمنة المطلقة على الأرض التي تشتملها الخارطة التوراتية لـ "إسرائيل الكبرى"، أي فرض السيطرة بالقوة العسكرية وطرد السكان الأصليين منها، نظراً لمساحتها الشاسعة وحتمية مواجهة عدة دول تملك من الإمكانات التي قد تكون فاعلة متى وجدت نفسها مهدّدة بالذوبان في كيان سياسي غريب. فإنّ إمكانية الهيمنة من خلال بناء يشبه في تنظيمه تحالفاً إقليمياً يكون الكيان الإسرائيلي فيه بمثابة محور أو مركز يؤدّي دور المقرّر ويحرص على أن تكون السياسات العامّة لهذا التحالف متوافقة مع مصالح الكيان أولاً وأخيراً. 

وعليه، يمكن القول إنّ السعي الإسرائيلي لتوسيع مروحة اتفاقات إبراهام من خلال السعي لضمّ كلّ من المملكة العربية السعودية وسوريا ولبنان على قاعدة إقناع كل دول المنطقة بمنطق التفوّق الإسرائيلي وبانعدام جدوى المقاومة أو البحث عن مصالح مختلفة عن مصلحة الكيان.

وعليه، يمكن القول إنّ فكرة "إسرائيل الكبرى" لا ينحصر تنفيذها بالهيمنة المطلقة على الجغرافيا واعتماد القوة الخشنة في التعاطي مع دول الجوار فقط، وإنما يمكن تنفيذها من خلال فرض نموذج شبيه بالاتحاد الأوروبي حالياً أو بالكونفدرالية السوفياتية سابقاً مع وجود عضو مهيمن أو قائد، أي بما يجعل من القادة العرب مجرّد ولاة حاكمين بأمر المستوى السياسي الإسرائيلي.