لماذا تصرّ "إسرائيل" على استهداف الإعمار المدني في جنوب لبنان؟

من اللحظات الأولى التي عاد فيها الجنوبيون إلى قراهم بعد وقف إطلاق النار، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، ومشهدية العودة هذه تثير حقد "إسرائيل" ؛ لأنّها تعبير مكثّف عن معنويات الجنوبيين وإرادتهم.

0:00
  • ماذا وراء العدوان الإسرائيلي المستمر على الإعمار المدني في جنوب لبنان؟
    ماذا وراء العدوان الإسرائيلي المستمر على الإعمار المدني في جنوب لبنان؟

بحسب تقرير خاص نُشر مؤخراً في مركز ألما للأبحاث والدراسات الإسرائيلي، ويحلّل مستويات إعادة ترميم إمكانات حزب الله، فإن طائرات الاحتلال نفّذت 610 غارات على لبنان، منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 إلى لحظة إصدار التقرير في 28 أكتوبر 2025. ويقول إن نسبة هذه الغارات توزّعت ب 47.5% على جنوب الليطاني،  37:5% على شمال الليطاني، وهو ما يعتبره التقرير مركز الثقل الجديد لحزب الله ( وحدة بدر)، 13% في البقاع، 1.6% في بيروت، أي في ضاحية بيروت الجنوبية.

غطّى الاحتلال الإسرائيلي هذا العدوان (610 غارات) بحجّة استهداف بنى تحتية تابعة لحزب الله، ولكن هنالك مجموعة من الاعتداءات تُظهر بشكل واضح الطبيعة المختلفة للأهداف؛ ومن ذلك العدوان على المصيلح في الحادي عشر من أكتوبر، والذي استهدف آليات بناء مدني، وجرّافات ومعدّات هندسية، وكذلك العدوان على مصانع إسمنت في النبطية في الثامن عشر من أكتوبر.

مركز ألما في تقريره لا يخفي طبيعة هذه الأهداف؛ ولكنّه يحاول تبريرها بمنطق ملتوٍ وتضليلي، ما يعطي إشارة على نية "إسرائيل" في استمرار الاستهداف لجهود الإعمار المدني في لبنان؛ فهو تارة يقول إن الآليات نفسها التي تستخدم في الإعمار المدني، تستخدم أيضاً في ترميم إمكانات حزب الله، وتارة يقول إن عودة الجنوبيين تؤمّن خلفها تدفّقاً لعناصر المقاومة جنوب الليطاني، بل ويركّز في تقاريره على مشاريع الإعمار المدني والتضامن الاجتماعي والعمل البيئي كهدف؛ ومن ذلك مشاريع مثل "وتعاونوا" و "أخضر بلا حدود".

فإذاً، ماذا وراء العدوان الإسرائيلي المستمر على الإعمار المدني في جنوب لبنان؟

من اللحظات الأولى التي عاد فيها الجنوبيون إلى قراهم وبلداتهم بعد وقف إطلاق النار، في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ومشهدية العودة هذه تثير حقد "إسرائيل" ؛ لأنّها تعبير صافٍ ومكثّف عن معنويات الجنوبيين وإرادتهم، وفي المقابل تعاني حكومة الاحتلال في إقناع المستوطنين بالعودة؛ فعلى الرغم من إغرائهم بمنح مالية للعودة، وتخويفهم بقطع منح النزوح في الوقت نفسه، لا تتحدث التقارير الإسرائيلية عن أكثر من 40% من المستوطنين عادوا إلى كل مستوطنات الشمال التي أفرغها حزب الله. 60% ما زالوا يعتقدون أن العودة غير مقنعة بالنسبة إليهم؛ وتخصص "إسرائيل" ميزانيات ضخمة لبرامج "التكيف الاجتماعي / المرونة الاجتماعية" (Societal Resilience)، ومع ذلك تفشل في مساعيها في إقناع المستوطنين.

مشهدية العودة للجنوبيين وفي المقابل استنكاف المستوطنين تضع حكومة الاحتلال في مواجهة فشل أحد أهم أهداف الحرب المعلنة.  

ضرب سبل العيش الجنوبي هو أحد الأهداف الإسرائيلية الواضحة، وليس أدلّ على ذلك من التركيز على استهداف ألواح الطاقة الشمسية التي تغذّي بيوت الجنوبيين بالكهرباء، في ظل معرفة إسرائيلية لمشكلة توليد الطاقة الكهربائية في لبنان. 

تحاول "إسرائيل" تعزيز الضغط الداخلي على مؤسسات الإعمار والتضامن الاجتماعي، اقتصادياً وإعلامياً. فتحاول الدّفع باتجاه إغلاق محافظ هذه المؤسسات في المنصّات المالية الرقمية المختلفة، وتحاول إعلامياً تصدير صورة هذه المؤسسات كـ"مؤسسات ظلّ" تخدم ترميم الإمكانات العسكرية؛ ويسهم جزء من الإعلام العربي والمحلّي في لبنان في محاولة تكريس هذه الصورة، كجزء من سياسية الضغط الشاملة، التي لا تختلف عن خطاب "نزع سلاح المقاومة". 
استهداف الإعمار هو فرع من فرع "قطع الطريق على التنمية" الذي تمارسه "إسرائيل" تاريخياً مع دول وشعوب المنطقة. من محاولات إعطاب قطاع الزراعة في مصر والأردن إلى استهداف برامج الطاقة النووية في المنطقة، لا فقط في إيران، جميعها تُدرج تحت عنوان "قطع الطريق على التنمية".

تمكنّت المقاومة في لبنان على مدار عقود من خلق نموذج تنموي، مؤسسات مالية وتضامن اجتماعي وخدمات صحية وزراعية، وتستهدف "إسرائيل" هذا النموذج التنموي في ذاته. 

ما تقوله الدراسات البحثية الإسرائيلية إن "إسرائيل" مستمرة في استهداف بنية الإعمار المدني والتضامن الاجتماعي في الجنوب؛ ووصلت مهزلة الذرائع الإسرائيلية إلى طلب التمييز بين "المدني المدني" و"المدني الآخر". 

وعد السيد حسن في عدم عودة مستوطني الشمال مستمر في التحقق بعد أكثر من عام على استشهاده؛ فمن ضغط الميزانيات لحكومة الاحتلال، إلى عزوف المستوطنين وعدم إمكانية إنتاج شعور آمن لديهم، إلى شعورهم بعد عامين بحجم الفجوة الطبقية والتنموية بين المراكز والأطراف في "إسرائيل"، تواجه إمكانية عودة المستوطنين تحدّيات كبرى، ويريد الإسرائيلي الانتقام من كل ذلك بقطع الطريق على عودة واستقرار من جُبلوا من طينة مختلفة تماماً، في الجهة المقابلة من الجبال!