ما بين غزة والفاشر: استهداف المنظومة الأمنية

من الذي أراد لغزة والسودان وبلدان العالم الثالث أن تعيش في غابة؟ رغم أن السودان يمكنها أن تكون سلة الوطن العربي بخلاف غزة بمساحتها الصغيرة، الغارقة في البارود والمواد المشعة والمسرطنة.

  • الحالة السودانية ومصطلحاتها تشبه إلى حد كبير الحالة الفلسطينية في قطاع غزة.
    الحالة السودانية ومصطلحاتها تشبه إلى حد كبير الحالة الفلسطينية في قطاع غزة.

لم تتوقف عمليات الإبادة والقتل بحق المواطنين السودانيين في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور منذ وقت طويل، على أيدي قوات الدعم السريع (RSF)، كنتيجة لحالة الحرب المندلعة منذ الخامس عشر من إبريل عام 2023، والتي توسعت لاحقًا لتشمل عدة مناطق في السودان، حيث عمدت تلك القوات إلى حصار المدينة وتجويعها منذ أكثر من ثمانية عشر شهرًا، تحت راية العرقية التي عمد إلى تغذيتها بعض دول الإقليم، من أجل إشاعة فتنة أكبر من الفكر السياسي كمحاولة لتفتيت المفتّت وتجزيء المجزّأ، وصولًا إلى استهداف مقومات الأمة كافة، في سبيل الوصول إلى عمق تلك الدول فكريًا وعمليًا، لأجل تحقيق غايات الاستعمار النيوليبرالي الذي يسعى إلى إشاعة الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، بما يتماهى مع مصالح تلك الدول، والتي لا ترى في شعوب العالم الثالث سوى قطيع لا قيمة له، يجب التعامل معه وفق مفهوم العبد والسيد، لا ضمن المفاهيم التي تحاول المؤسسات المهيمنة على القرار العالمي إشاعتها، حيث برزت ازدواجية للمعايير بشكل جليّ إبّان حرب الإبادة على قطاع غزة.

وكأن النظم الشمولية العربية مجرد حجارة دومينو يحركها اللاعب الإمبريالي أو حتى الاشتراكي، لتنفيذ السياسات التي تخدم مشاريعه بما يمس عصب الكيانات والمفاهيم، والمعضلة هنا تكمن في دور الأشقاء والجيران العرب الذين قبلوا على أنفسهم أن يعيشوا دور العسس والجنود في خدمة السيد سام والنظام الصهيو-أميركي رغم ما يمتلكه هؤلاء أنفسهم من مقدّرات عظيمة، يمكنها أن تنهض بالأمة العربية المفككة، داخليًا وخارجيًا، على صعيد الاحتياجات المادية والمعنوية، الجسدية والروحية. لكن النظم الشمولية التي تكبح جماح الديمقراطية وتحارب الكلمة، تعرف أن بقاءها مرهون بالتبعية العمياء للسيد الأبيض "المشغِّل"، حيث ستظل عاجزة عن إحداث التغيير الإيجابي المطلوب في المحيط المحلي أو العروبي القومي أو حتى الإسلامي. 

وبالعودة إلى الحالة السودانية، حيث نزح أكثر من اثني عشر مليون إنسان داخليًا وخارجيًا، مع وجود مجاعة قاهرة وفيضانات موسمية تزيد من تلك الكارثة، بينما تتفرج الأمة على حالة الانهيار العظيم الذي ينتقل من دولة إلى أخرى، لمصلحة الدول الاستعمارية كما تمت الإشارة إليه، من دون موقف عربي جامع يمكنه وقف النزيف بحق البشر والحضارة والتاريخ، فأين جامعة الدول العربية التي تعيش حالة موات؟ أين مجلس التعاون الخليجي؟ أم أن هناك فوقية في نظرة المجلس تجاه الدول والشعوب العربية الأخرى؟ أين المغرب العربي؟ أين رابطة علماء المسلمين؟ وأين وأين؟! 

ولعل ما يجري اليوم في السودان، يشبه الحالة الفلسطينية في غزة، والانقلاب على الوعي من خلال تزييف الحقائق والمفاهيم كما جرى إبان الانتخابات الفلسطينية عام 2006 وفوز حركة حماس ووصولها إلى سدة الحكم، واجترار مفاهيم الانقلاب أو الحسم، والشروع في الحصار المحلي والإقليمي والدولي، حتى وصل الحال بالفلسطيني إلى رفض هويته الديمقراطية والوطنية.

علمًا أن حماس نفسها اليوم ترفض الديمقراطية أسوةً بحركة فتح وغيرها من فصائل العمل الوطني، والسلطات والأنظمة القائمة سواء في قطاع غزة أم الضفة الغربية، وهو ما يجعل الفلسطيني يدور في دائرة التيه بين الاحتياج وعبء التخلص من النظم المسيطرة على الوعي الجمعي والاحتلال المسيطر على الأرض. 

وما بين التصريحات الرسمية العربية والغربية والوقائع على الأرض في الحالة السودانية، وكذلك الفلسطينية، مسافات شاسعة كما بين السماء والأرض، إذ يمكن ممارسة "التقية" حتى في السياسة العالمية، سعيًا نحو تمرير الأهداف المرجوة، ولأجل تحقيق الغايات الاستعمارية ولو على حساب البشر، من دون اهتمام حقيقي وجادّ بوقف سيل الدم في ربوع العالم، حتى في أوكرانيا الشقراء. 

ولأن الحالة السودانية ومصطلحاتها تشبه إلى حد كبير الحالة الفلسطينية في قطاع غزة، رغم اختلاف هويات القتلة وأهدافهم، إلا أن الزعيم واحد، والوجهة واحدة، إذ لا يمكن تحقيق النهضة العربية في ظل وجود شعوب تكن الكراهية لأي احتلال وتسعى إلى التحرر بأنواع المقاومة كافة ووسائلها المتاحة، وعليه كان لا بد للاستعمار من العمل على كي الوعي، وتفعيل كل الخيارات لإرباك الشعوب وإشغالها بمتطلبات حياتها اليومية، والتركيز على السلم الأول من سلم الأولويات لدى ماسلو، وربما السلم الثاني في أحسن الأحوال، حتى يصير احتياج العربي شبيهًا باحتياج الحيوانات فقط.

لذلك فإن ما قام به حميدتي ضد النظام السياسي القائم هناك، مدعومًا من قوى إقليمية لإرباك المشهد السوداني والأفريقي، ليس اعتباطًا أو عشوائيًا، وليس نزيهًا أو شريفًا، خصوصًا في الوقت الذي تتغلغل فيه "إسرائيل" هناك بقوة، ليؤكد أن الهدف واحد: هدم منظومة الوعي، والإبقاء على العبودية التي قضت على الهنود الحمر إبان تغيير الأرض التي أصبحت تسمى لاحقًا بالولايات المتحدة الأميركية، كشاهد في كل زمان ومكان على استمرار حالة السيطرة الغربية على الأمة، لكن بأدوات عربية وإسلامية، من دون الحاجة إلى أي احتلال غربي على الأرض، تكون تكلفته كبيرة من حيث السلاح والعتاد والجنود الشقر على الأرض؛ ولكن في حال فشل تحقيق ذلك الهدف بتلك الوسيلة، فإن الخيارات الأخرى متوفرة ولديها أدواتها، والأهم في ذلك هو الحروب الأهلية والانقلاب على الثورات عند قيام أي حراك عربي جاد ضد الفقر والظلم والقهر، كما رأينا خلال العقد المنصرم. 

ورغم أن السودان ليس فلسطينيًا، إلا أن هناك تشابهات كبيرة جدًا من حيث البعد الإنساني المتمثل بالتهجير وتدمير البنية التحتية وإخراج المشافي من الخدمة وإشاعة الفلتان في كل ربوع تلك الجمهورية العملاقة، لتظل الأمة فريسة الذئب الذي لن يتوقف عن التهام مقدرات هذه الجمهوريات والبلدان المكتنزة بالخيرات.

ولكن الفارق بين الحالتين هو أن فلسطين تقع تحت احتلال يمتلك كل أدوات القوة، بينما تعيش السودان حالة تمزق داخلي، وهذا ما عمد الاحتلال مؤخرًا إلى إحداثه في قطاع غزة، من خلال نشر الفئات الضالة والبلطجية الذين استأسدوا على أبناء شعبهم بحماية طائرات الاستطلاع وطائرات الاحتلال الحربية، فقاموا بقتل رجال المقاومة في عقدهم القتالية وتحرشوا بالنساء عند مفترقات الطرق وسرقوا ممتلكاتهن، ثم اعتدوا على الشبان في الشوارع وسرقوا البيوت وشاحنات المساعدات، فلتان منظّم وغير مسبوق في الحالة الفلسطينية، تديره أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والإقليمية لهزيمة قطاع غزة من الداخل، إلى جانب هزيمته بالصواريخ التي كانت تستهدف البيوت والمساجد والكنائس والبنى التحتية الأخرى كافة. 

ولعل شماعة جوقة الفسدة واللصوص والخونة هي إعلان العداء لتنظيم أو جماعة بعينها، وبالتحديد حركة حماس، رغم أن المتخابرين يعلمون جيدًا أن صواريخ الاحتلال لا تفرق بين طفل أو امرأة، وبين حمساوي أو فتحاوي، إلى درجة أن وصل الحال ببعض العوائل والأشخاص إلى العمل بشكل واضح مع المنسق وضابط الاستخبارات الإسرائيلي، من خلال السيطرة على شاحنات الطعام كما يجري اليوم، في الوقت الذي كانت تتضور فيه غزة جوعًا، يقتلون الرجال والشبان والأطفال، يحملون الجنازير والأسلحة البيضاء، ثم يذهبون بتلك البضائع إلى البركسات التي تعود لتلك العوائل، كي تُتلف، المهم ألا تصل إلى الجوعى من سكان مدينة غزة وشمالها؛ وهناك العديد من الشواهد التي أبرزت حالة الجريمة المنظمة، لذلك فإن انتشار الأمن في الأيام واللحظات الأولى من وقف إطلاق النار في قطاع غزة كان لمنع تفاقم الأمور وخروجها عن السيطرة.

فالحالة السودانية كانت ستحدث في غزة وبشكل أكثر سوءًا لولا تدارك رجال الأمن الموقف، والحسم بشكل سريع وقاصم للعديد من الأشخاص الذين حاولوا فرض الفلتان على شوارع الوطن، حتى لا يأمن الرجل على زوجته، أو على قوت عياله، ولعل مشاهد سرقة المساعدات مؤخرًا رغم إعلان وقف إطلاق النار الهش، أكبر دليل على قانونية المحاكمات الثورية العاجلة في القطاع، إذ لم تعد هناك جريمة وفلتان كما السابق، رغم استماتة الاحتلال بإعادة مشهد البلطجة والسرقة إلى المشهد، وأذكر في هذا الموضع ما جرى مع طفلي الذي لم يبلغ عشرة أعوام بعد، حين هاجمته مجموعة من البلطجية لأجل سرقة كيس طحين "خمسة كيلو" ففرّ هاربًا خوفًا من طعنة بسكين لا ترحم، والسؤال: كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ من الذي أراد لغزة والسودان وبلدان العالم الثالث أن تعيش في غابة؟ رغم أن السودان يمكنها أن تكون سلة الوطن العربي بخلاف غزة بمساحتها الصغيرة، الغارقة في البارود والمواد المشعة والمسرطنة، من الذي يمنع تلك الجمهورية من استثمار المساحات الشاسعة للزراعة واستغلال الموارد الطبيعية بما فيها الذهب؟! 

ربما سيسمع العالم كثيرًا من بيانات الاستنكار والإدانة، لكنه لن يتحرك على الأرض للذود عن الأبرياء الذين يموتون كل يوم في السودان، كما صمت بالأمس القريب ويصمت اليوم على خروقات الاحتلال المستمرة ضد المدنيين الأبرياء في قطاع غزة المحاصر حتى اللحظة، والذي يتعرض لأبشع أنواع التجويع أيضًا، رغم "البروباغندا" الإسرائيلية من سماحهم بإدخال المساعدات وعدم اعتراضها، وهو ما ينافي الحقيقة، حتى تصل السودان إلى حالة الهلاك، وحينها سيأتي العسس مجددًا كوسطاء أو رسل سلام ليحملوا رسالة قيصر إلى زعيم الحبشة، يطالبونه بتوقيع الاستسلام والسماح للمستعمر بإنشاء المشاريع الطامحة لربط العالم وفق مصالح الدول الاستعمارية الكبرى. 

منتصف نيسان/أبريل 2023 تندلع مواجهات عنيفة في الخرطوم وعدة مدن سودانية، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتفشل الوساطات في التوصل لهدنة بين الطرفين.