من الثياب إلى تسريحة الشعر... كيف غيّر ترامب شكل الدبلوماسية الأميركية؟

ربما يرى ترامب في القادة الذين يملكون حضوراً بصرياً لافتاً شركاء محتملين، بينما يتعامل مع من يفتقرون إلى الكاريزما كخصوم ضعفاء، أو أنه لا يولي الحلفاء منهم ذلك القدر من الأهمية.

  • ترامب.. التوصيفات ولغة الجسد بديلاً للدبلوماسية التقليدية.
    ترامب.. التوصيفات ولغة الجسد بديلاً للدبلوماسية التقليدية

يقول جوزيف س ناي في كتابه "القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية": "قبل أكثر من 4 قرون نصح نيقولو ماكيافيللي الأمراء في إيطاليا بأن يكون المرء مُخافاً أهمّ من كونه محبوباً، ولكن الأفضل في عالم اليوم أن يكون المرء مالكاً لهاتين الصفتين معاً".

لا شكّ أنّ الولايات المتحدة عبر رؤسائها ومؤسساتها الدبلوماسية تطبّق نصيحة ناي منذ زمن بعيد، وخصوصاً بعد أن أصبح لها اسم يعبّر عنها بـ"القوة الناعمة"، فعندما سئل وزير الخارجية الأميركي كولن باول عام 2003 من على منبر منتدى دافوس الاقتصادي، عن القوة الناعمة الأميركية، قال: "الولايات المتحدة احتاجت إلى قوة صلبة لتكسب الحرب العالمية الثانية، وما الذي أعقب القوة الصلبة مباشرة؟ هل سعت للسيطرة على أمّة واحدة في أوروبا؟ كلا فقد جاءت بالقوة الناعمة في خطة مارشال؟".

وهناك أمثلة كثيرة على هذا المسار في العلاقات الدبلوماسية، الذي قد تكون الولايات المتحدة أهمّ أمّة طوّعته واشتغلت به، وسعت للتأثير من خلاله على الدول والشعوب حول العالم وتحقيق سياساتها ومصالحها الأنانية والخبيثة في الأغلب الأعمّ.

ترامب.. التوصيفات ولغة الجسد بديلاً للدبلوماسية التقليدية

الرئيس دونالد ترامب ومنذ صعوده إلى البيت الأبيض، وخصوصاً في ولايته الثانية، لم يبتعد عن هذه السياسة بالمعنى العامّ، بل أعطاها بعداً جديداً عبر إعادة تعريف اللغة السياسية، مبتعداً عن البيانات الرسمية والتصريحات الجافة والخطابات الطويلة، فاستخدم لغة بسيطة وتلقائية يمتزج فيها الاستعراض الشخصي بالتواصل المباشر العفوي ويصل إلى حدّ إلقاء النكات أو السخرية.

فبدل أن يصف سياسات نظرائه، أو يتحدّث عن المصالح والقيم المشتركة كما يتحدّث معظم قادة العالم، يلجأ ترامب إلى وصف ملابسهم أو تسريحات شعرهم أو ملامح وجوههم.

هذا الأسلوب الذي يبدو للوهلة الأولى غير مألوف في العلاقات الدولية، يكشف عن تحوّل في أدوات القوة الناعمة الأميركية، حيث تحلّ اللغة والمظهر والهيئة محلّ اللغة البروتوكولية، ويتحوّل التوصيف الشخصي إلى رسالة سياسية مشفّرة تُقرأ بين السطور، وتصبح محط اهتمام المحللين ووسائل الإعلام.

لقد استفاد ترامب من أدوات الإعلام الحديث ومنصاته، وعرف أنّ الصورة والموقف ربما يكونان أهم وأكثر انتشاراً من خطاب سياسي طويل، فكلّ تعليقٍ على مظهر زعيمٍ هو جزء من رؤية أوسع، هدفها تعزيز الصورة الأميركية التي يمثّلها ترامب، والتي تقول إنه (كممثّل لأميركا) هو في قلب الحدث وهو صانعه ومحرّكه ومن له الحقّ في التقييم.

اقرأ أيضاً: ترامب والمهمة المستحيلة: إعادة تشكيل النظام الأميركي بقبضة فردية

السياسة والتفاوض على طريقة ترامب

ليست الأوصاف التي يطلقها ترامب على الزعماء الذين يلتقيهم صدفة لغوية، بل هي بلا شك جزءٌ من استراتيجية متكرّرة ومتعمّدة.

فقد تجاهل مصافحة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل مرة ووصفها مرة أخرى بأنها "تبدو مرهقة"، وسخر من تسريحة شعر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، قبل أن يمتدحه ويقول إنه "معجب به". أما الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، فهاجمه مرة ونعته بـ"رجل الصواريخ"، ثم عاد ليصفه بـ"الذكي جداً والمحبّ لبلاده".

وحين التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علّق على "أناقة ملبسه" مرة وأناقة لغته مرة أخرى، أكثر مما علّق على مضمون المباحثات، فيما بدا أنه توجيه غير مباشر للرأي العامّ نحو شخصنة العلاقات الدولية.

وفي ولايته الحالية يبدو أنه طوّر من هذه الاستراتيجية، فقد كان لافتاً وصفه للرئيس الانتقالي السوري الحالي، القائد الجهادي السابق والمطلوب للولايات المتحدة أحمد الشرع، بأنه "شاب قوي البنية وله ماضٍ قوي"، كما وصف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنه "قوي وهو صديق لي.. كان رائعاً معي"، وبالصفات نفسها تقريباً وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه "جنرال وقائد قوي"، بينما لم يتوانَ عن إبداء إعجابه بـ "جمال" رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، قائلاً إنها "امرأة شابة وجميلة".

هذا غيض من فيض تعليقات ترامب الإيجابية، التي ربط بعض المحللين الكثير منها بأنها أتت بعد تنازلات أو ميزات قُدّمت لترامب من قبل هؤلاء، لكنّ الرجل ليس إيجابياً دائماً ولا يتّبع ذلك مع كلّ الزعماء، فهو استخدم الأسلوب الوصفي التصويري ذاته، ولكن بطريقة تحمل نقداً أو إذلالاً لبعض الزعماء، فبرغم وصفه نظيره الروسي بأنه "قوي" مرة، إلا أنه وصفه بـ "المجنون" لاحقاً، وهو برغم التبنّي الأميركي لأوكرانيا إلا أنه أذلّ رئيسها فولوديمير زيلنسكي عندما سخر من ارتدائه الأزياء غير الرسمية في البيت الأبيض، وسعى لإذلال نظيره الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا بعرض صور مفبركة لجرائم قتل البيض في بلاده.

حتى في الداخل الأميركي، لم يوفّر ترامب خصومه من التعليقات الشكلية السلبية: فوصف مراراً جو بايدن بـ"النعسان"، ونانسي بيلوسي بـ"المتوترة"، وجون بولتون بـ"صاحب الشارب الغاضب"، أو عندما اقترح استخدام شاربه للتدفئة.

هذه اللغة التي تمزج بين السخرية والتوصيف الشكلي تُظهر بوضوح أنّ ترامب يدير معاركه بالانطباعات لا بالمصطلحات السياسية.

دبلوماسية أم دعاية؟ حدود اللعبة السياسية عند ترامب

في التاريخ السياسي، استخدم بعض الزعماء اللغة الساخرة أو الوصفية لتوجيه رسائل غير مباشرة. حيث تذكر المصادر أنّ رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل كان يستعمل الدعابة مع نظرائه، بينما كان جون كينيدي يمتدح خصومه لاحتوائهم.

أما ترامب فقد حوّل كلّ خطاباته وتوصيفاته إلى حفلة من التوصيفات الشخصية والانطباعات، وهو نمط دبلوماسي جديد يمكننا تسميته بـ "دبلوماسية الصورة".

غير أنّ ترامب وإن كان يطلق توصيفاته وانطباعاته بحقّ الزعماء والسياسيين، إلا أنه لا يخاطبهم أو لا يسعى للتأثير عليهم فقط، بل يخاطب عاطفة الجماهير التي تستمع إليه وتراقب تصرّفاته، فهو لا شكّ يدرك أنّ عبارته التي تصف مظهر هذا الزعيم أو ذلك قد تترك أثراً أعمق من أيّ اتفاق سياسي، ويمكن هنا أن نلاحظ تناقل كلماته وتوصيفاته عبر المنصات بعد كلّ لقاء، والاهتمام بها على حساب التصريحات والمواقف السياسية الجادّة، سواء من المؤيّدين أو المعارضين.

وبهذا المعنى، يستخدم ترامب هذا الأسلوب كأداة تدعم خطابه الشعبوي بما يتجاوز حدود البروتوكول ليتحوّل إلى أداة تأثير شعبي، تركّز على عواطف الجمهور أكثر من عقول النخب، الذين ينتقدون تصرّفاته ويصفونها بالسطحية أحياناً.

غير أنّ ترامب عندما دخل السياسة لم يخض غمارها بعيداً عن فلسفته في الحياة، فهو رجل أعمال وكلّ شيء عنده قابل للتفاوض، وكلّ لقاء أو كلمة فرصة للربح؛ عندما يصافح الزعماء مصافحات قوية وطويلة، وبنظرة مباشرة، يكسب في حرب الصورة، ويرسل رسائل واضحة بأنه هو من يُسيطر على الموقف.

لكنّ نجاح ترامب في "دبلوماسية الصورة" لم يعد دائماً عليه بالربح، فقد أفرط أحياناً في الاعتماد عليه، ما أدى أحياناً إلى تجاهل تفاصيل مهمة في العلاقات الدولية. والنتيجة كانت سياسة درامية توصف بأنها متذبذبة وأقل استقراراً.

وقد ارتدّت عليه في بعض الأحيان بشكل سلبي، ونذكر عندما حشد كلّ حلفائه في الاتحاد الأوروبي ضدّه، بسبب ما اعتبروه إذلالاً من قبل ترامب للرئيس الأوكراني، وكيف انتقدت النخب السياسية حول العالم لقاءه ووصفه للرئيس السوري بالرجل ذي التاريخ القوي، وهو الذي تدرّج في صفوف القاعدة والتنظيمات المصنّفة إرهابية.

اقرأ أيضاً: هوس ترامب بجائزة نوبل للسلام لم ينته بعد

حين يخدم التهكّم السياسة... أهداف ترامب الخفية

قد تبدو تعليقات ترامب طريفة أو عفوية، لكنها في العمق تحمل أبعاداً استراتيجية متعددة.

فمن جهة، يسعى إلى نزع الهيبة عن خصومه عبر تحويلهم إلى مادة للضحك أو التهكّم. ومن جهة أخرى، يحاول تثبيت صورة ذهنية عن نفسه كزعيم قوي ومباشر، لا يخضع لقواعد المجاملة.

كما يستخدم الأوصاف الإيجابية حين يريد التودّد أو فتح قنوات جديدة. فعندما قال عن كيم جونغ أون إنه "شاب موهوب جداً"، كان يمهّد للقاء سنغافورة الشهير 2018. وحين وصف بوتين بأنه "رجل قوي لا يتراجع"، كان يبعث برسالة واضحة إلى الداخل الأميركي بأنه يحترم القوة ويُعجب بالثبات، وأنه بحاجة لرئيس أميركي قوي للتعامل معه لا رئيس ضعيف كبايدن.

إذاً، فالوصف ليس مجرّد انطباع عابر، بل جزء من هندسة الصورة الدولية، يستخدمه ترامب لتوجيه العلاقات الثنائية وفق إيقاعه الخاص.

لغة المظهر والسيطرة.. تحليل نفسي لأسلوب ترامب

  • الكثير من الخبراء النفسيين يصفون ترامب بأنه شخص نرجسي
    الكثير من الخبراء النفسيين يصفون ترامب بأنه شخص نرجسي

من منظورٍ نفسي، يميل الأشخاص الذين يصفون الآخرين بمظاهرهم إلى تحويل هذا النوع من التفاعل إلى علاقة تقوم على الهيمنة. فعندما يعلّق قائدٌ على شكل نظيره أو هيئته، يصبح هو صاحب الكلمة الأخيرة وهو الذي يملك القوة والحقّ في تحديد قيمته أو توصيفه.

يقول علم النفس إنّ النرجسيين، وترامب حتماً منهم، يعمدون إلى إسقاط صفاتهم وعيوبهم على الطرف المقابل، وغالباً يصحّ ذلك على الصفات الإيجابية أيضاً، أي أنّ الزعيم النرجسي يقيّم الآخرين بناءً على ذاته: القوة، الهيبة، الكاريزما، والقدرة على جذب الأنظار.

لذلك ربما يرى ترامب في القادة الذين يملكون حضوراً بصرياً لافتاً شركاء محتملين، بينما يتعامل مع من يفتقرون إلى الكاريزما كخصوم ضعفاء، أو أنه لا يولي الحلفاء منهم ذلك القدر من الأهمية أو لا يسبغ عليهم الصفات الإيجابية.

اقرأ أيضاً: علماء نفس يشخّصون ترامب بأنه "نرجسي خبيث"

حين تتكلّم الصورة.. السياسة في زمن الإعلام الاجتماعي

في النهاية، لا يمكن التعامل مع أسلوب ترامب بوصفه انحرافاً عن الأعراف السياسية فحسب، بل يجب قراءته كأداة سلطة وأسلوب لفرض الهيبة والتأثير.

وبذلك يؤسس ترامب لأسلوب دبلوماسي جديد يقوم على تشكيل صورة الزعماء، سواء الحلفاء أو الخصوم، في الوعي الجمعي، ويؤكّد أنّ الدبلوماسية الحديثة لم تعد تُدار في الغرف المغلقة، بل على شاشات الهواتف أمام ملايين المتابعين، ومن خلال الوصف والحركة ولغة الجسد.

في زمن الصورة، يبدو أنّ ترامب فهم سر اللعبة: من يملك الكلمة الأولى في وصف الآخرين، يملك القدرة على إعادة تعريفهم وتقديمهم للعالم.

اقرأ أيضاً: الرئيس مختل عقلياً.. سلوك ترامب يزداد غرابة