نتنياهو و"إسرائيل الكبرى": عقدة الطفولة وزلزال 7 أكتوبر
تصريحات نتنياهو حول "إسرائيل الكبرى" ليست مجرد شعارات انتخابية أو تحشيد سياسي لليمين، بل تعبير عن إيمان داخلي متجذر، تلاقت فيه عقدة نفسية قديمة مع ظرف أمني وعسكري.
-
التمسك بـ"إسرائيل الكبرى" هو وسيلة نتنياهو لتجاوز عقدة الأب والأخ.
صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقابلة صحفية على قناة I24 الإسرائيلية أنه "مرتبط جدًا بفكرة إسرائيل الكبرى"، وأضاف: "أشعر أنني في مهمة تاريخية وروحية."
وبعيدًا عن ما أحدثه هذا التصريح من ردود أفعال عربية وإقليمية ودولية، نظراً لخطورته في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة، والحديث المتواتر عن تهجير سكانها واحتلالها بالكامل، وقرار الكنيست بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، والقتال الإسرائيلي على ست جبهات أخرى، سعيًا إلى تغيير وجه الشرق الأوسط حسب رؤية نتنياهو.
النقاش الذي سنحاول تناوله في هذا المقال، يرتبط بمدى جدية نتنياهو وإيمانه بفكرة "إسرائيل الكبرى"، وهل هذا التصريح يأتي فقط من باب التعبئة والتحشيد الانتخابي والسياسي للقاعدة اليمينية الإسرائيلية حول نتنياهو، أم أن القضية لها جذور أكثر عمقًا وتجذرًا في التكوين النفسي والتربوي والأيديولوجي والأمني لنتنياهو، خاصة بعد عملية السابع من أكتوبر؟
إذا أردنا أن نتعرف على شخصية ما، يجب أن ندرك طبيعة البيئة التي تربت بها وتنشأت من خلالها. بنيامين هو الابن الأصغر لتسيون نتنياهو، الذي كان مؤرخًا ومفكرًا صهيونيًا من مدرسة جابوتنسكي (التيار التصحيحي)، وهو أحد أبرز روافد الفكر القومي الصهيوني اليميني. كتب أبحاثًا حول محاكم التفتيش الإسبانية ومعاداة السامية، وبلور قناعة لدى ابنه أن اليهود لن يعيشوا بأمان إلا في دولة قوية متوسعة ومهيمنة. زرع في نتنياهو قناعة بأن التسويات أو التنازلات "خيانة للتاريخ"، وأن إسرائيل لا بد أن تكون في حالة صراع دائم مع محيطها.
ونتنياهو الأخ الأصغر ليوني نتنياهو "بطل عملية عنتيبي"، وحسب الصحافي بن كسبيت (سيرة «سنوات نتنياهو») أن: «كل شيء في البيت كان يدور حول يوني… كان هو المُعيَّن لدور تاريخي، وبيبي رضي بدور الأخ المُسانِد». معظم الشهادات والسير تصوِّر بن-تسيون نتنياهو أبًا صارمًا وبعيدًا، ميَّزَ الابنَ الأكبر يوني ورآه «المختار» للعظمة، فيما كان ينتقد بنيامين ويُقلِّل أحيانًا من قدراته علنًا، ما ترك أثرًا نفسيًا وفكريًا على الأخير.
هذا التفضيل خلق عند بنيامين إحساسًا دفينًا بالنقص، وحاجة مستمرة لإثبات الذات أمام ظلّ أخ. فبدل أن يستسلم لليأس، تحوّلت تلك النظرة السلبية إلى محفّز داخلي لا واعٍ: أن يثبت، حتى بعد موت أبيه وأخيه، أنه هو الوريث الحقيقي لـ"الدور التاريخي".
وهنا بالذات يصبح التمسك بفكرة "إسرائيل الكبرى" ليس مجرد خيار سياسي، بل تعويض نفسي: يريد أن يقدّم نفسه كصاحب الإنجاز الأكبر في تاريخ "إسرائيل"، من يغيّر وجه الشرق الأوسط لصالح التوسع الإسرائيلي.
نعم، يوني نال المجد العسكري بالتضحية والموت في عملية عنتيبي، ولكن بنيامين يسعى لنيل المجد التاريخي بـ"الفتح السياسي والأيديولوجي"، عبر ترسيخ "إسرائيل" كقوة مهيمنة دائمة في المنطقة.
بهذا، هو لا ينافس فقط صورة أخيه، بل أيضًا يُخاطب والده المتوفى بشكل رمزي: "أنا من سيحقق حلم إسرائيل الكبرى، أنا الذي كنت تظن أنه أقل شأنًا." الأمر الذي يفسّر لماذا يستخدم نتنياهو لغة مثل "مهمة تاريخية وروحية"؛ فهي في الحقيقة ليست فقط مهمة قومية، بل رحلة إثبات ذات شخصية ونفسية.
التمسك بـ "إسرائيل الكبرى" هو وسيلته لتجاوز عقدة الأب والأخ، وتكريس نفسه في ذاكرة "إسرائيل" كـ"البطل الأخير"، الذي يقوم على تغيير خريطة الشرق الأوسط لصالح إسرائيل الكبرى والآمنة.
غير أن هذا البعد النفسي العائلي الدفين عميقًا في اللاوعي لدى نتنياهو، اصطدم فجأةً بزلزال 7 أكتوبر، حين وجد نفسه ليس في موقع "الملك التاريخي" الذي سيذكره التاريخ الإسرائيلي باعتباره أطول رئيس وزراء حكم "إسرائيل"، و"سيد الأمن" القومي، بل في موقع رئيس الوزراء الأفشل في التاريخ الإسرائيلي، المسؤول عن أكبر كارثة في تاريخ اليهود في القرن الحادي والعشرين. كارثة 7 أكتوبر لم تُسقِط فقط صورة "الملك الحارس"، بل هددت أيضًا طموحه العميق في أن يُتوَّج في الذاكرة اليهودية كبطل تاريخي على شاكلة ملوك "إسرائيل" القديمة.
من هنا يمكن فهم إصراره المحموم على مصطلح "النصر المطلق": فهو لا يسعى فقط لتدمير حماس أو سحق غزة، بل لتحويل الحرب إلى مشروع شامل يعيد رسم خريطة المنطقة — من غزة إلى لبنان وسوريا، وليس منتهياً بإيران، بل بتهديد الأردن ومصر وربما العراق لاحقًا. إنها محاولة لمحو 7 أكتوبر من الوعي الإسرائيلي عبر إنجاز توسعي تاريخي يُقدَّم كتعويض نفسي وسياسي في آن واحد.
لكن نتنياهو ليحقق ذلك، يدرك أنه يحتاج لأطول وقت ممكن في السلطة وقيادة الحكومة، وفي ظل اقتراب الانتخابات وتدهور وضع ائتلافه بعد انسحاب الحريديم، وقراءته للخارطة السياسية الداخلية، بات يدرك أن كسب جمهور جديد من الوسط أو يمين الوسط مهمة مستحيلة في ظل الانقسامات الداخلية العميقة. لذلك خطته تتمحور حول السعي لتوطيد قاعدته الانتخابية اليمينية، واستجلاب اليمين الأكثر تطرفا، من خلال اللعب على مفاهيم تأسيسية لدى تلك القاعدة: رفض الدولة الفلسطينية، النصر المطلق، والتأكيد على فكرة "إسرائيل الكبرى"، وفرض السيادة الإسرائيلية، في محاولة أيضًا لقطع الطريق على سموتريتش وبن غفير بأن يتجاوزوه من اليمين الأكثر تطرفًا.
وهذا ليس مجرد تنظير أو تصور فكري، بل وقائع ميدانية جارية: فإسرائيل لم تنسحب كاملًا من جنوب لبنان وتواصل تعزيز حضور عسكري هناك. وفي سوريا، تحتل جبل الشيخ والقنيطرة وتفتح الباب أمام سيناريو "الحكم الذاتي الدرزي" في السويداء تحت الحماية الإسرائيلية.
أما في غزة فقد بدأت عمليًا بضم منطقة عازلة بعمق كيلومتر على طول الحدود داخل القطاع، مع خطط تمتد للسيطرة على مناطق أوسع وربما إعادة الاستيطان. هذه الوقائع تؤكد أن مشروع إسرائيل الكبرى لم يعد مجرد خطاب سياسي، بل خطوات جغرافية متدحرجة على الأرض.
نتنياهو يريد حسم الخلاف الأيديولوجي الصهيوني بين معسكر "الحدود الآمنة" الذي تمسك به ديفيد بن غوريون وبين معسكر "إسرائيل الكبرى" الجابوتنسكي القومي. فبن غوريون وامتداداته في حزب العمل كانوا يؤمنون أن الاستيطان ليس فعلًا دينيًا أو قوميًا، بل خطة دفاعية لخلق حدود آمنة لإسرائيل. حتى احتلال 1967 لم يكن لتجسيد "إسرائيل الكبرى"، بل لجرّ خطوط الدفاع إلى قناة السويس وسيناء والجولان والأغوار، أي لإبعاد الحرب عن العمق الإسرائيلي. لكن بعد 7 أكتوبر، انهارت هذه العقيدة مع أول اختراق للحدود، وهو ما دفع نتنياهو ومفكري اليمين إلى تبني التوسع الجغرافي كاستراتيجية أمن قومي جديدة.
خلاصة القول: تصريحات نتنياهو حول "إسرائيل الكبرى" ليست مجرد شعارات انتخابية أو تحشيد سياسي لليمين، بل تعبير عن إيمان داخلي متجذر، تلاقت فيه عقدة نفسية قديمة مع ظرف أمني وعسكري فرضته أحداث السابع من أكتوبر. ومن هنا تكمن خطورة هذه التصريحات، فهي تعكس خطة توسعية فعلية، تمتد من غزة إلى لبنان وسوريا وإيران، وربما إلى الأردن ومصر لاحقًا.
وبالتالي، أول خطوة حقيقية لإفشال هذه المخططات تبدأ بوقف الحرب على غزة فورًا. هذا الوقف لا يمثل حماية فقط للمدنيين الفلسطينيين، بل هو حجر الزاوية الذي يوقف آلة التوسع، ويكسر الرهان على النصر المطلق، ويعيد فرض الواقع السياسي على القيادة الإسرائيلية. هنا يبرز الدور المصري والقطري، كحاضن للجهود الوسيطية، ومن خلفه الدور العربي الذي يمكن أن يضغط سياسيًا ودبلوماسيًا لاحتواء الأزمة، فيما يرفع الدور الأمريكي، من بوابة ترامب، شعار "إخماد الحروب" كأداة دولية لإعادة توازن القوى، ولفرض هدنة دائمة تقي المنطقة مخاطر التصعيد التوسعي.
إن وقف الحرب على غزة، إذا ما تضافرت الجهود العربية والمصرية وجُندت الإرادة الأمريكية، يصبح الخطوة الحاسمة لإحباط الرؤية التوسعية لنتنياهو وإعادة ضبط معادلة القوة في الشرق الأوسط، قبل أن تتحول الطموحات الأيديولوجية لنتنياهو إلى واقع يصعب تداركه إلا بحروب قد تستمر لعشرات السنين.