هدف زيارة لاريجاني إلى بيروت.. لبنان أولاً
ما تحدّث عنه لاريجاني وما عبّر عنه حزب الله في أكثر من مناسبة يؤكّد أنه من غير الممكن مقاربة الأزمة الحالية بشكل مستقل عن عوامل إقليمية فرضتها الرؤية الإسرائيلية للشرق الأوسط.
-
لاريجاني في بيروت.. السياق والأهداف.
ليس من الواقعي حصر الأهداف الحقيقية للحكومة اللبنانية، بموضوع سلاح حزب الله وقرارها غير الميثاقي بنزعه على أساس اعتباره زوراً سلاحاً غير شرعي فاقداً لأيّ وظيفة وطنية، ومساهماً في تهديد السلم الأهلي من خلال تصنيفه على أنه يخدم أجندات خارجية، على أنها تستهدف معالجة قضية تعكّر صفو السيادة اللبنانية حصراً.
فالمعروف أنّ حزب الله يمتلك من الحجج والبراهين التي تمكّنه من رفض هذا القرار وإبطاله من حيث الشكل والمضمون، حيث إنّ الإطار النظري المبرّر للحفاظ على السلاح قد تمّ وضعه منذ الانطلاقة الأولى عام 1982 وذلك بالاستناد إلى الرؤية نفسها التي أعلنها سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر.
فالمقاومة الإسلامية ومن قبلها حركة أمل قد ربطت امتلاكها للسلاح بعوامل تتعلّق بعجز الدولة، إن لم نقل تخلّيها عن ممارسة وظيفتها السيادية، وعن القيام بدورها منذ 1948 من دون أن ننسى سلوك السلطة السياسية في أكثر من مرحلة لمسار مشبوه من حيث تعاملها مع الكيان الإسرائيلي، إضافة إلى اعتباره، أي السلاح، نتيجة حتمية للاحتلال الإسرائيلي وأطماعه الاستيطانية في جنوب لبنان، وبالتالي يمكن الاستنتاج حكماً بأنّ هذا السلاح لم يكن أبداً نتاج قرار سيادي لبناني، وإنما نتاج قرار جزء كبير من الشعب اللبناني بتولّي مهمة الدفاع عن لبنان وسيادته في ظلّ تخلّي الدولة اللبنانية تاريخياً عن قيامها بهذه المهمة.
أما اتفاق الطائف، الذي يعتبر البعض أنه شرّع المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي يقدّم الغطاء الشرعي لسلاح حزب الله، فيجب القول إنّ هذا التشريع لم يكن نتيجة اقتناع كلّ الشعب اللبناني بهذه المقاومة، وإنما نتيجة حتمية لتوازنات القوى الداخلية التي أفرزتها الحرب الأهلية لناحية إصرار بعضها على تشريع المقاومة الشعبية وقناعتها بأنّ الدولة بظروفها التي لم تتغيّر منذ تلك المرحلة عاجزة عن ممارسة وظيفتها الأساسية المتمثّلة بالدفاع عن شعبها وحمايته في مواجهة الأخطار الخارجية.
ولتأكيد صحة هذا الإصرار، لم تتبنَّ السلطات اللبنانية في فترة ما بعد الطائف خيار الدولة المقاومة الباحثة في كيفية بناء قدرات ردعية تمكّنها من تحقيق التحرير وبسط سيادة الدولة على كامل التراب اللبناني، وإنما اكتفت دائماً بدور المتفرّج المتسلّح بمقولة قوة لبنان في ضعفه وتبنّت خيار الشكوى إلى مجلس الأمن واللجوء إلى الشرعية الدولية وسيلة وحيدة للتعبير عن رفضها للسلوك الإسرائيلي العدواني، مع الإشارة إلى تحفّظ جزء كبير من هذه السلطة على اعتبار القوى المتعاملة مع الكيان أعداءً للبنان.
وعليه، يصبح من الضروري البحث في المقدّمات التي أدّت إلى تبنّي الحكومة لقرارها غير الميثاقي، على اعتبار أنّ تلك المقدّمات لا ترتبط أبداً بدور محوري دفاعي تريد الدولة القيام به. في هذا الإطار، يجب العودة إلى الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية في ذكرى عيد الجيش. فمن خلال تحليل كلمته التي أوجز فيها رؤية الدولة اللبنانية من خلال ثماني نقاط أظهرت نوعاً من التفاهم بين أطياف السلطة في لبنان على ضرورة تنفيذ الكيان الإسرائيلي لما نصّ عليه القرار 1701 قبل الانتقال إلى تنفيذ الدولة اللبنانية لتعهّداتها الأخرى.
فمن خلال هذه النقاط الثماني، التي تبدأ بلزوم انسحاب الكيان من الأراضي التي يحتلّها ووقف الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية وإطلاق سراح الأسرى وعدم عرقلة إعادة الإعمار، إضافة إلى دعم الجيش ونقاط أخرى باتت معروفة، أمكن القول إنّ السلطة في لبنان قد آثرت الحفاظ على سيادتها وأعلنت رفضها للضغوط التي كانت تمارس عليها منذ انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة الحالية.
غير أنّ هذا الواقع لم ينسحب قراراً نهائياً بالحفاظ على سيادة القرار اللبناني حيث نجح التدخّل الأميركي المدعوم من المملكة العربية السعودية في تغيير التوجّه اللبناني ودفع إلى عقد الحكومة لجلستين عنوانهما اتخاذ قرار بسحب سلاح المقاومة، أي تنفيذ ورقة الإملاءات الأميركية التي فرضها توم براك. وعليه سقطت سردية لبنان الحرّ صاحب القرار السيادي وتحوّل لبنان إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، إضافة إلى محاولة تحويله إلى بيدق على رقعة الشطرنج التي تستهدف من خلالها الولايات المتحدة العمل على تحقيق حلم "إسرائيل" الكبرى من خلال محاولة اجتثاث كلّ مناهض أو رافض.
فـ"إسرائيل" الكبرى وفق الرؤية الأميركية يجب ألّا تُعرف حصراً بالتوسّع الجغرافي للكيان كما سوّق نتنياهو في مقابلته الأخيرة على i24، وإنما يمكن تعريفها، في هذه المرحلة على الأقل، بخضوع دول المنطقة للهيمنة الأمنية والسياسية الإسرائيلية من خلال اتفاقات شبيهة بوادي عربة وأوسلو وكامب ديفيد، أي اتفاقات أبراهام. وعليه، يصبح مفهوماً مدى الحاجة الأميركية الإسرائيلية إلى اجتثاث المقاومة من لبنان مهما كانت النتائج التي قد تترتّب على هكذا توجّه.
وبنتيجة أنّ نجاح الولايات المتحدة في سوق الحكومة اللبنانية ورئيس الجمهورية لتبنّي توجّهها في مواجهة حزب الله لا يمكن أن يترجم إلا في إطار مراكمة نقاط القوة الإقليمية التي لا يمكن ترجمتها منطقاً سيادياً لبنانياً، يصبح المسار الموازي الذي بدأه حزب الله وأمكن تصنيف زيارة رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني مكمّلاً له مفهوماً. فرفض تسليم السلاح الذي أعلنه حزب الله واعتبره استسلاماً غير مشروط للدولة اللبنانية قد جاء متوازياً مع ما طرح لاريجاني مع الرؤساء الثلاثة، وعبّر عنه صراحة بضرورة تمتّع لبنان بالقدرة على اتخاذ قرارات صائبة تخدم المصلحة اللبنانية من دون أيّ اعتبار آخر.
فما تحدّث عنه لاريجاني وما عبّر عنه حزب الله في أكثر من مناسبة يؤكّد أنه من غير الممكن مقاربة الأزمة الحالية بشكل مستقل عن عوامل إقليمية فرضتها الرؤية الإسرائيلية للشرق الأوسط. فتسليم السلاح لن يؤدّي إلى لبنان سيّد حرّ ومستقلّ، وإنما سيفتح آفاق الأطماع الإسرائيلية لفرض مزيد من تنازلات من دون أن نهمل آثار إسقاط لبنان في خانة التطبيع على واقعه الداخلي وعلى الواقع الإقليمي.
فتسليم السلاح في لبنان سيؤدّي حتماً إلى شطب قضية اللجوء الفلسطيني في لبنان وسيؤدّي أيضاً إلى فقدان أيّ أمل بتحرير الأرض وسيطرح إمكانية فرض تنازلات عن أراضٍ لبنانية، شكّلت حلماً تاريخياً لاستيطان إسرائيلي على حدود الليطاني، من دون أن ننسى إمكانية تقسيمه بين سوريا والكيان.
لم يعد الحفاظ على الحدود المعترف بها دولياً من الثوابت في زمن حكم دونالد ترامب، تشكّل الحالتان الأوكرانية والسورية مثالاً واضحاً لهذا الواقع. وعليه، يمكن إعطاء زيارة لاريجاني بعداً يتعلّق بلبنان الـ 10452 كلم قبل الحديث عن أبعاد أخرى تتعلّق بتوازنات القوى الإقليمية التي تجهد إيران لتكريسها.
فالمشروع الإيراني في لبنان لا يتمثّل في جعله خط دفاع أوّل عن الجمهورية الإسلامية في مواجهة الكيان الإسرائيلي والولايات والمتحدة، حيث أثبتت الحرب الأخيرة بين إيران من جهة والكيان والولايات المتحدة من جهة أخرى قدرة هذين الطرفين على المواجهة المباشرة من دون التأثّر أو التأثير من خلال الساحة اللبنانية.
وبالتالي، فإذا كانت الزيارة التي قام بها لاريجاني تستهدف ثني الدولة اللبنانية عن قرارها بنزع سلاح المقاومة، مع الإشارة إلى افتقاد الأخيرة للقدرة العملية اللازمة لتحقيق هذا الهدف، فإنّ ذلك لا يرتبط في هدفه الأساسي بفكرة الإيحاء بأنّ المقاومة هي جزء من أدوات القوة الإيرانية، مع الإشارة إلى عدم نفي البعد العقائدي الجامع بينهما، وإنما ترتبط في جوهرها بضرورة العمل على عدم سقوط لبنان في أتون حرب أهلية مدمّرة، وكذلك عدم اصطفاف الدولة اللبنانية في المحور الأميركي الإسرائيلي، حيث إنّ الاصطفاف في هذا المحور لم يضمن الأمان لسوريا بعد إعلان حكمها الحالي التخلّي عن منطق العداء للكيان، ولم يضمن أيضاً تحوّل السلطة الفلسطينية إلى دولة، كما أنه لم يقدّم لدول أخرى كالأردن ضمانات تجعلها مطمئنة لمصيرها ككيانات نهائية تضمن لشعوبها الحفاظ على كامل أراضيها ضمن حدودها المعترف بها دولياً.