هل يفعلها السيسي؟ مصر بين قيود "كامب ديفيد" ونداء اللحظة التاريخية

إما أن يُذكر السيسي كمن صان سيناء وحمى مصر من مشروع التهجير، أو يُدان كمن ضيّع اللحظة التي لا يمنحها الزمن مرتين.

0:00
  • "كامب ديفيد"… القيد الذي كبّل مصر.

في حياة الأمم لحظات فاصلة لا تتكرر، تُشبه ومضة البرق: من يلتقطها يخلُد في سجلات التاريخ، ومن يتردّد يذُب اسمه في هوامش النسيان.

هكذا كان قرار تأميم قناة السويس عام 1956، حين أمسك جمال عبد الناصر باللحظة وحوّلها إلى شرارة أشعلت مجدًا وطنيًا وعربيًا وأمميًا. واليوم، تقف مصر أمام لحظة لا تقل خطورة: عدو صهيوني ينفّذ حرب إبادة وتجويع منذ ما يقرب من عامين ضد غزة، يدفع أهلها إلى التهجير القسري نحو سيناء، ويعلن قادته بوقاحة مشروع "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات. فهل يفعلها عبد الفتاح السيسي؟ هل يلتقط اللحظة ليكتب اسمه في سجل الخالدين؟

"كامب ديفيد"… القيد الذي كبّل مصر

لم تكن كامب ديفيد سلامًا، بل قيدًا جرى إحكامه على عنق مصر. جمال حمدان وصفها بأنها خطر استراتيجي على الأمن القومي، إذ كبّلت حركة الجيش في سيناء بملاحق أمنية جعلت السيادة منقوصة، ومنحت "إسرائيل" حرية فرض الوقائع. ولم يكن المفكرون وحدهم من رأى هذا الخطر، بل رجال الدولة أنفسهم: إسماعيل فهمي استقال احتجاجًا على زيارة القدس، ثم جاء وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل فاستقال قبيل التوقيع على "كامب ديفيد"، وسجّل في كتابه "السلام الضائع" أن المعاهدة لم ترد الحقوق بل أهدرت أوراق القوة، وحوّلت انتصار أكتوبر إلى هزيمة سياسية مغلّفة.

دماء مصرية أُهدرت على طاولة المساومة

كان عبور أكتوبر 1973 ملحمة أعادت إلى مصر كرامتها، لكن ما حُقّق بدماء الجنود على الضفتين جرى تبديده على الطاولة. السادات حوّل النصر إلى مغامرة سياسية، بينما كان رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي ينذر من التفريط في ثمار العبور، فدفع ثمن صدقه إقصاءً وتهميشًا.

لقد ارتوت القناة بدماء آلاف الشهداء، ثم جاء الاتفاق وكأنه إنكار لتضحياتهم، وانسدادٌ للأفق الذي كان يمكن أن يقود إلى تحرير شامل لمصر والعرب.

خروقات بلا حساب

منذ أربعة عقود، لم تكفّ "إسرائيل" عن انتهاك المعاهدة: تجاوزات في الملحق الأمني، تجسس وتوغلات عسكرية، محاولات لفرض أمر واقع على الحدود. تعاملت مع "كامب ديفيد" كهدنة لصالحها، تُلزم مصر بقيودها بينما تطلق يدها. وهكذا تحوّل اتفاق وُلد باسم السلام إلى سلسلة قيود أرهقت مصر، وأطلقت العنان لمشروع صهيوني لا يعرف الكبح.

عزلة مصر وتفكك العرب

والأخطر أن "كامب ديفيد" لم تُضعف مصر وحدها، بل أضعفت العرب جميعًا. فقد عُزلت مصر عربيًا لما يقرب من عقد، وانتقلت قيادة العمل العربي إلى أطراف هامشية، فتمزق الصف وتراجع الموقف الجماعي.

استغلت "إسرائيل" هذا الفراغ لتشن عدوانها على لبنان عام 1982 وتسرّع وتيرة الاستيطان، مدفوعة بوعي أن العرب بلا قلب يقودهم. لقد كان الثمن أن فقدت مصر مكانتها العربية والدولية، وفقد العرب معها حصانتهم الاستراتيجية.

الإبادة والتهجير… تهديد وجودي لمصر

اليوم، لم تعد المسألة نظرية. حرب الإبادة في غزة، التجويع الممنهج، القصف المتواصل، ورفض كل المبادرات المصرية، ليست إلا غطاءً لمخطط التهجير نحو سيناء.

وهذا لا يعني فقط تصفية القضية الفلسطينية، بل زرع برميل بارود في قلب مصر، يهدد أمنها القومي ويفتح حدودها الشرقية على صراع دائم. إن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء ليس خرقًا لـ"كامب ديفيد" فقط، بل إعلان حرب على مصر نفسها.

 "إسرائيل الكبرى"… الوجه الفاضح للمشروع الصهيوني

نتنياهو لم يعد يخفي شيئًا: رفع خريطة "إسرائيل الكبرى" في الأمم المتحدة متحديًا العالم. هذه ليست خريطة وهمية، بل برنامج عمل يتقدّم خطوة بعد أخرى، من الاستيطان إلى الحروب، ومن التهجير إلى محاولة تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة. لقد تحوّلت "كامب ديفيد" إلى غطاء لتمدد   "إسرائيل"، فيما تدفع مصر اليوم ثمن هذا الوهم القديم.

فرصة السيسي التاريخية

هنا، يطل السؤال الكبير: هل يفعلها السيسي؟

إنها فرصة لا تمنحها الأيام إلا لقلة من القادة. كما التقط ناصر شرارة القناة فكتب اسمه في سجل الخالدين، يستطيع السيسي أن يلتقط شرارة سيناء، فيحوّل الخطر إلى مجد.

أمامه أن يقول للعالم إن مصر لن تكون مكبًّا للتهجير، ولن تقبل أن تُستدرج إلى مشروع "إسرائيل الكبرى". إما أن يبقى أسيرًا لاتفاق كبّل مصر أربعة عقود، أو أن يخلّد اسمه كقائد أعاد صوغ معادلة الأمن القومي.

بين التردد والقرار

بين التردد والقرار تُصاغ الأقدار. قد يختار التردد، فيبقى اسمه في الهامش بين الحكام العابرين، وقد يختار القرار فيُسجَّل كقائد غيّر مسار الأمة. فالتاريخ لا يكتبه المترددون، بل الذين صنعوا الجغرافيا بقراراتهم.

إما أن يُذكر السيسي كمن صان سيناء وحمى مصر من مشروع التهجير، أو يُدان كمن ضيّع اللحظة التي لا يمنحها الزمن مرتين.

لحظة ناصر الجديدة؟

إنها لحظة امتحان حقيقي: إما أن يظل أسيرًا لإرث "كامب ديفيد"، أو أن يتحرر منه ويكتب لمصر صفحة جديدة في سجل قادتها العظام. التاريخ لا ينتظر، واللحظة لا تتكرر. عبد الناصر فعلها فدخل سجل الخالدين. فهل يفعلها السيسي؟

ساعة الحقيقة

مصر ليست دولة على الهامش، بل قلب الأمة. فإما أن ينهض قلبها ليقود من جديد، أو يظل مكبّلاً باتفاق أرهقها نصف قرن. والتاريخ لا يرحم من فوّت ساعة المجد.