البحث عن المعنى في عصر الضجيج

لم يعد النقد السلبي كافياً، فالمطلوب اليوم هو الإصرار على إنتاج محتوى جوهري يخاطب العقل قبل العاطفة، وتشجيع المبادرات التي تروّج للفكر النقدي، وتقدير المتخصصين والخبراء في مجالاتهم.

  • Influencer (بوهلي نكالاشي)
    Influencer (بوهلي نكالاشي)

لطالما سيطرت أصوات "المؤثرين" على المنصات الرقمية. نراهم يطلّون علينا بابتسامات متشابهة وخطابات مكررة، وكأنهم يقدمون وصفة سحرية للسعادة والنجاح. لكنّ شيئاً ما بدأ يتغير في المشهد الرقمي. بعد سنوات من التخمة، بدأ الجمهور يستفيق من سباته، وكأن نومه الطويل في بحر من التفاهة قد أتعب روحه، فصار يبحث عن ينبوع حقيقي يروي ظمأه للمعنى.

ما زلنا نراهم في كل مكان، يملأون الشاشات بنصائح جاهزة مستهلكة، كالتماثيل التي تتحرك بلا روح، تقدم البديهيات وكأنها اكتشافات فلسفية، وتغلف العادي ليباع على أنه استثنائي. لقد أصبح "الاستعراض" فناً، و"الضجة" ثقافة، و"التكرار" منهجاً، وتحوّل التأثير إلى صناعة، والحكمة إلى سلعة، والمشاعر إلى منتج استهلاكي. لكنّ شيئاً مثيراً بدأ يحدث، فبعد سنوات من التغذية على "الوجبات السريعة" الفكرية، بدأت شريحة متعاظمة من المتلقين تشعر بالغثيان، وكأنها استيقظت من حلم غريب لترى أن الترفيه الفارغ قد تحوّل إلى سجن كبير للعقل.

ها هي تلك الشريحة من المتلقين تبحث عن طعام فكري أكثر إشباعاً. نرى إقبالاً متزايداً على المحتوى المتخصص، ومنصّات تقدّم تحليلات سياسية رصينة، وشرحاً علمياً متعمقاً، ونقداً أدبياً جريئاً. لقد بدأ "منقبو الأعماق" يظهرون في محيط الإنترنت الضحل، يبحثون عن اللآلئ الحقيقية في زمن يبيع فيه الكثيرون لآلئ مزيفة بأسعار بخسة. 

هذا التحوّل يتجلى في مؤشرات واضحة: انحسار متابعي "مؤثري التفاهة"، ظهور منصات فرعية متخصصة ترفض السطحية، تعليقات نقدية جريئة تحت منشورات الكليشيهات الفارغة، وازدياد الطلب على التحليل المعمق مقابل الأخبار السريعة.

لعل السر في هذه الصحوة المتأخرة يكمن في الإدراك المتأخر لثمن هذه السطحية، لقد اكتشفنا أن "الوجبات السريعة" الفكرية تؤدي إلى سمنة عقلية، وأن "الحلول الجاهزة" لمشكلات الحياة المعقدة أشبه بمسكنات وقتية لأمراض مزمنة. وكما يقول المثل الصيني: "عندما يكون الطالب مستعداً، يظهر المعلم". ها هو الجمهور يستعد اليوم لمعلمين جدد، يحملون معرفة أعمق وفهماً أوسع للحياة.

وفي مواجهة هذه الصحوة، لم يعد النقد السلبي كافياً، فالمطلوب اليوم هو الإصرار على إنتاج محتوى جوهري يخاطب العقل قبل العاطفة، وتشجيع المبادرات التي تروّج للفكر النقدي، وتقدير المتخصصين والخبراء في مجالاتهم، وبناء مجتمعات رقمية ترفض التفاهة وتطلب الجوهر. إنها معركة بين "الصدى" و"الصوت"، بين من يكرر ما يسمعه وبين من يقدم رؤية جديدة.

فهل تكون هذه الصحوة بداية تحوّل حقيقي ومستدام؟ ذلك هو الأمل الذي نحمله في قلوبنا كشعلة في ليل طويل. نتطلع إلى يوم يصبح فيه العمق قيمة راسخة، لا موضة عابرة، ويصبح الصوت الهامس للحكمة مسموعاً فوق ضجيج الأصداء. 

نتخيل عالمًا رقمياً تتسع فيه مساحات الفكر النقدي، وتزدهر فيه حدائق المعرفة الأصيلة، ويصبح البحث عن الجوهر نهجاً حياتياً، لا مجرد رد فعل عابر. لعلّ هذه الصحوة تكون البذرة التي ستُنبت غداً شجرة وارفة الظلال، تظلّل أجيالاً قادمة لم تعد تقنع بالقشور، بل تتوق إلى اللباب، وتدرك أن الحكمة ليست سلعة تُشترى، بل رحلة ذاتية يخوضها العقل الواعي في بحثه الدائم عن المعنى. كما قال أبو العلاء المعري: "غايةُ العقلِ استبانةُ الحقائقِ، لا جمعُ المتاع". لنكن من الباحثين عن الحقيقة، لا من جامعي السلع الفكرية.

في زمن الأصداء العالية، تبقى الأصوات الهادئة العميقة، كما وصف دوستويفسكي الحكمة، هي "كالنور يتسلل إليك من شق صغير، فإذا فتحت الباب انساب النور بغتة فأضاء كل شيء". وها نحن اليوم نفتح الأبواب على مصاريعها، راجين أن يفيض هذا النور، فيمحو ظلام السطحية، ويضيء دروبنا نحو فكر أكثر إنسانية، وأعمق وعياً، وأجدر بمستقبل نبنيه معاً.

اخترنا لك