دعد حدّاد أو "الهبوط بمظلة مغلقة"!

طردت من بيتها فسكنت غرفة في مستودع، وكانت تجوب "سوق الهال" لتجمع بقايا الخضار على الأرصفة. ما حكاية الشاعرة السورية دعد حداد؟

لا مسافة فاصلة بين حياة الشاعرة السورية الراحلة دعد حدّاد (1937 - 1991) وبين نصوصها! كما لو أنها تكتب سيرتها شعراً، من دون محسّنات بديعية، أو أوهام. عاشت حياتها كنموذج للشاعرة المتصعلكة، تجوب الشوارع والحانات وتنام في الحدائق، ثم تفرّغ جعبتها من الآلام على الورق بخطّ نزق وروح يائسة.

رحلت صاحبة "تصحيح خطأ الموت" (1981) وحيدة ومنبوذة ومشرّدة. اقُتلعت من بيتها في شارع العابد في دمشق بمكيدة عائلية، فاضطرت أن تقطن غرفة رطبة في مستودع للكتب، تتوسّد معطفها وتنام، مثل طائرٍ جريح فقد عشّه.

كانت تجوب "سوق الهال" ليلاً تجمع بقايا الخضار المتروكة على الأرصفة، تلتهم الحشائش الذابلة مثل حيوان برّي جائع. على الأرجح كانت تقضم وحدتها مع الفئران. امرأة بدينة بقبعة من القشّ، وبعصا جنرال تهشُّ بها ذباب المثقفين عن مرآتها. تتسكّع في شوارع دمشق، بلا أصدقاء، تكتب عزلتها من دون زخرفة أو بلاغة، بوصفها احتجاجاً على ما انتهت إليه من حطام.

نبذها المثقّفون في وضح النهار، واحتفلوا بميراثها الشعري بعد غيابها بوصفها أيقونة نادرة.  تقول "تولد القصيدة عندي إثر حالات توتر نفسي حادّ مرفقة بهواجس وعذابات تشبه غصّة الدمع وانحباس الضحكة اليائسة… في هذه الطقوس النفسية الفظيعة يولد عندي النص الشعري، ويعقبه تعب مسرّ، ثم تخفّ عندي حالة الحزن المريرة، وأشعر بهدوء نفسي نسبيّ… يبدو أنّ الشعر يغسلنا من مرارة الأحزان". 

الشاعرة المارقة والغاضبة

  • دعد حدّاد
    دعد حدّاد

كان الشاعر الراحل، بندر عبد الحميد، أول من اكتشف حداد شعرياً، واصفاً إياها بأنها "شاعرة مارقة شجاعة غاضبة، من الواقع وقيود الحياة اليومية وقيود الشعر والكتابة واللغة الجاهزة واجترار الشعارات والخطابات".

ويلفت الشاعر محمد مظلوم إلى خصوصية تجربة حداد بقوله إن: "شعرها شعر الأنوثة الشرسة، لذا فنحن إزاء شاعرة وليس مجرّد أنثى، ولكن أيّ نوع من الشعر وأيّ صنف من الشاعرات؟ في شعرها صعلكة واضحة حتى كأنها الشاعرة العربية الوحيدة التي تخترق المركزية الذكورية للصعلكة كما نعرفها من قرون، فإذ نعرف الكثير من الشعراء الصعاليك في الشعر العربي، أو الذين ادّعوا الصعلكة في الشعر الحديث، إلا أننا نادراً ما قرأنا لشاعرةٍ تجربةً في الصعلكة بهذا الوضوح، وفي شعر دعد حداد الكثير، ما يحيل تجربتها إلى هذا الإرث: الجوع مقابل الإيثار، والتشرّد، والشراسة إزاء الظلم في العالم، مع حنوٍّ على الكائنات الضعيفة والهشة، والانشقاق والنبذ الاجتماعي المتبادل".

ما يعيد دعد حداد إلى الواجهة، عناية المنصات الإلكترونية بنصوصها، ما وضع تجربتها أمام ذائقة جيل جديد وجد في شرايينها المفتوحة نكهة طازجة ومختلفة وغير مألوفة.

يقول الشاعر بشير البكر إنه: "حين نقرأها اليوم بمفعول رجعي ونقاطع نصوصها مع نصوص تلك المرحلة نجد أنها حلّقت لوحدها، وكانت ذات مزاج مختلف وإيقاع إنساني فريد، وهذا ربما فسّر جانباً من أسباب رحيلها المبكر، وعندما نستعيد بعض وقائع تلك الأيام البعيدة، نجد أنّ القسوة مع الذات شكّلت أحد محاور حياة هذه الشاعرة".

"تصحيح خطأ الموت"

هكذا تلقّفنا مجموعتها الأولى "تصحيح خطأ الموت" (1981) بدهشة. شاعرة لا تشبه أحداً إلا ذاتها. لم تكن جزءاً من تيار شعري، بقدر ما هي رغيف شعري طازج، خرج توّاً، من تنور التجربة. زهرة برية تلفت انتباه الرعاة وحدهم إلى لغز رائحتها.

هكذا حضر الموت باكراً إلى معجمها، بجرعات متدرّجة، من دون هيبة أو خشية، حتى إنه صار أليفاً. إذ لطالما كانت حياتها على حافة الهلاك. وتالياً، فإنّ مراودة الموت بمثل هذه البسالة، كانت ضرباً من النجاة، في الوقت المستقطع، لحياة رثّة، أثثتها بالكتابة كتعبير جارح عن الوحدة والحزن وشغف الحب، بسريالية تشبه يومياتها.

نصوص بحوافٍ خشنة، تتناسل من أحشائها، أقسى أنواع الوحدة "لماذا تعصف الريح بي، وحدي؟" تتساءل. لكنها، بعد قليل، ستستثمر العاصفة برغبة الطيران "أودُّ أن أطير، أن تكون مهنتي الخطر".

سننتبه بأنّ حداد كتبت معظم نصوصها في ليلٍ متأخّر، تشكو الوقت البطيء، وانتظار بزوغ النهار. ها هي تربح جولة إضافية مع الحياة، ولكن أيّ حياة؟ في ضربتها الحاسمة الثانية "كسرة خبز تكفيني" (1987)، تتضاءل قدرتها على العيش، وإذا بها ترتطم بمفردات الموت بيقينٍ تامّ "لا أحد يستطيع أن يسكن قبري/أنا من تحمل الزهور إلى قبرها وتبكي من شدة الشعر/أغمضوا أعينكم/سأمر وحيدة كرمح"، و"فوق جبين العالم، قبرٌ أبيض، اقتلني واربح دولاراً"، و"استيقظوا الآن، أنا وحيدةٌ، ها هي أجراسي وتوابيتي".

ليس تابوتاً واحداً للمرأة الوحيدة، إنما توابيت، كأنها تدفن معها عشّاقها، فالحب بالنسبة إليها "مسوّدة ممزّقة، وسلالم موسيقية".

بروفات عشق وغناء لا تكتمل على الإطلاق، وضعتها في مهبّ العزلة، وحافة الجنون. كانت في سنواتها الأخيرة، تقتحم "اللاتيرنا" حانة مثقّفي السبعينيات، من دون أن تجد من يجالسها، تشتم بعضهم علناً، ثم تخرج مكسورة، تهشّ بعصاها بقايا القطعان الضالة.

لا أحد يعلم أنّ دعد حداد كانت تنام جائعة، في ليالٍ كثيرة، وكانت تتسلل فجراً إلى سوق الهال، تتأبط سلّتها، تلمُّ بقايا الثمار المعطوبة. ورغم هذا الألم، وهذه الحشرجة، كانت تكتب يومياً تقريباً "الحائط باردٌ يا أمي! والثلجُ قادمٌ، وها هو صوتي يناديكِ، من خلفِ الأحجارِ والترابِ، فلا صدى لصوتي"، و"رغيفي المسروق والمبلّل... كيف أنتزعه من مخزن الحرية؟".

على أنّ هذا الضيم والفقدان، لم يمنعاها من أن تدعو إلى سحر الحب "الحب طائر غريب، يودّ أن يعيش بسلام".

في الحركة الثالثة من نوتتها الرعوية "الشجرة التي تميل نحو الأرض" (1991) التي صدرت بعد رحيلها، تستكمل الجنّاز بأسى أكبر، كأنها تعلم قرب نهايتها، ها هي تميل نحو الأرض مثل شجرة عصفت بها قسوة ريح العيش "ثلاثةُ أطفالٍ، يحفرونَ قبري في الثلج: الوحدةُ والحزنُ والحرية".

هذا الثالوث رافق خطواتها المتعثّرة في عتمة دمشق، فأرّخته في يومياتها بانفعالات متوترة. إذ لا وقت لديها لمراجعة ما تكتب، كأنّ كلّ ما كتبته كان عريضة اتهام، في المقام الأول، وانتظاراً مضجراً للإغفاءة الأخيرة "منذ عشرين عاماً، وأنا أراقب الشجرة التي تطلّ نافذتي عليها/ معظم الأشجار كانت تتَّجه نحو السماء، إلّا هذه الشجرة ما زالت تميل نحو الأرض"، ثم تلحقها بضربة إيقاعية حاسمة "لا شيء أقوى من رائحة الموت في الربيع" (رحلت في 27 نيسان/أبريل).

لكن مهلاً، ليس هذا كلّ ما لدى دعد حداد. قبل رحيلها، أودعت قصائد لم تنشرها من قبل، بعهدة صديق تثق به، حملت عنوان "ثمة ضوء"، ونُشر للمرة الأولى، ضمن أعمالها الشعرية الكاملة التي صدرت بعنوان "أنا التي تبكي من شِدَّة الشعِّر" (2018). في هذه النصوص، سنقع من علوٍ شاهق، على ارتباكات العزلة، واضطرابات الكائن الهشّ، والدمار الوشيك، ومرثية في محاورة الموت، وبمعنى آخر: "الهبوط بمظلة مغلقة"، وفقاً لعنوان إحدى مسرحياتها الضائعة.  

مختارات من "ثمّة ضوء"

انزعُوا الأقنعةَ، أيُّها البشر
وامشُوا حفاة أيضاً!
وعرايا...
ثمّة ضوء في آخر الليل الطويل...
ثمّة نهارات...

**

أُودِّعُكَ الليلة، يا ناي...
أُودِّعُ الشِّعْرَ الحزين
أُودِّعُ رقصَ الموت..
وأرحل...
أُودِّعُ الأضواء...
والفلسفات.
والحكايات...
والأصوات...

وأرحل!؟

**
 
لولا صياحُ الشحارير.. في الأصيل..
لقلتُ:
مرحباً.. للموتِ الحزينِ الشريف

 **

ما هذه المسافات...
والفراغات...
وأنا وحدي... أركض بلا...
... نهاية...
لا شيء سوى الذهول، واللا معقول،
لا شيء يحدُّ من هذه المسافات،
لا يدٌ صديقة..
لا يدٌ محبّة..

**

أحيكُ ثوبي...
وأصنعُ دميتي...
ولكنْ؛
لمَنْ أهدي كلَّ هذا الجمال؟
والعالم مقفرٌ.. ومتّسعٌ..
وأنا...
أركض... بلا نهاية
 

اخترنا لك