"أعزائي المشاهدين": رائدة سعادة توقظ الحجر وتدين الصمت
الاستمرار في أعمال سعادة هو فعل مقاومة يومي. المرأة التي تجسدها في تصويرها وأفلامها الفيديوية تعيش في عالم يهاجم قيمها وحبها وروحها بشكل يومي، إنها تحت الاحتلال بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
-
من معرض "أعزائي المشاهدين" للفلسطينية رائدة سعادة
…في عمّان أيضاً فرصة أخرى لمشاهدة أعمال الفنانة الفلسطينية، رائدة سعادة، التي تحوّل مشروعها البصري إلى بيان جمالي ثقافي يسلط الضوء على المعاناة اليومية لشعبها تحت الاحتلال، إذ توصل بمهارة وذكاء من خلال الصور الفوتوغرافية مشاهد من تلك اليوميات التي جعلها الاحتلال الإسرائيلي جحيماً لا يُطاق.
زائر "دارة الفنون" في جبل اللوبيدة ذي المباني الحجرية التي تروي بعضاً من تاريخ عمّان، تستقبله حتى آخر أيلول/سبتمبر الحالي أعمال رائدة سعادة بعنوان مباشر يضمر نوعاً من السخرية السوداء: "أعزائي المشاهدين". ليس المعرض مجرد احتفاء بصريّ، بل هو استدعاء فلسفي عميق لجروح الذاكرة، وصورة مركبة عن معنى الوجود تحت وطأة الاحتلال.
تخرج أعمال سعادة، المولودة في أمّ الفحم والمقيمة في القدس، من رحم الانهيار. إنها لا تبدأ من نقطة الصفر، بل من منتصف المشهد، حيث انهار كل شيءٍ بالفعل، ولكن الحياة، بطريقة ما، تواصل مسيرتها المعتلة.
هنا، في هذه المساحة المتوترة بين الكارثة والروتين، بين الصدمة و"التعايش" مع المأساة، تُقيم الفنانة عوالمها. إنها ترفض تقديم عزاءٍ سهل أو إجاباتٍ جاهزة، بل تصرّ على إبقاء الجرح مفتوحاً، والسؤال معلقاً في الهواء: كيف نستمر؟
لا ينبثق المعنى في أعمالها من الخطاب المباشر، بل يتسرب من خلال الفجوات: في نظرة عين، في حركة جسدها الذي يجعل من نفسه وسيطاً رئيسياً، في صمتٍ ثقيلٍ يعقب عاصفة.
إن اللغة، في هذا السياق، تبدو عاجزةً ومشتتة، تتأخر دوماً عن اللحظة، فتُترك المهمة للفعل الأدائي ليحفر في الواقع المنهك. إنها تعيد تشكيل الرموز العالمية، كالموناليزا، لترتدي ثوباً فلسطينياً وتحمل همّاً فلسطينياً، في عملية تفكيك بصري ساخر تُظهر تناقض العالم مع ذاته.
الاستمرار في أعمال سعادة هو فعل مقاومة يومي. المرأة التي تجسدها في تصويرها وأفلامها الفيديوية تعيش في عالم يهاجم قيمها وحبها وروحها بشكل يومي، إنها تحت الاحتلال بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومع ذلك، فهي تتطلع نحو المستقبل، مبتسمة أحياناً، في إصرارٍ على الحياة يذكرنا بصمود شعبها. من خلال أعمال مثل "التنظيف" و "الحمل" و "بحر"، تتحول المهمات اليومية البسيطة إلى طقوس وجود، إلى محاولات للتطهير والبقاء في عالمٍ مشوّه بالعنف والقسوة.
من أبرز أعمال المعرض تجهيز ضخم يتشكّل من آلاف حبات "البوب كورن" يجسد مشهد بيت مدمر، في إحالة إلى تدمير الاحتلال لبيوت الفلسطينيين ومنازلهم، فيما ترمز حبات "البوب كورن" التي يتناولها المشاهدون داخل صالات السينما وهم يشاهدون الأفلام، إلى أن المُشاهَدة الحيادية أو اللامبالية هي نوع من التواطؤ مع المجرم وتأييد الجريمة بالسكوت عنها وعدم منعها، أو على الأقل عدم إدانتها.
ما يثير الاهتمام هو كيفية تعامل سعادة مع "فعل المشاهدة". المعرض ليس موجّهاً فقط لمشاهد سلبي، بل هو يستفزه ويدفعه إلى المشاركة في المسؤولية. هناك دائماً من يشاهد، من ينظر بعيداً، من يتورط في المشهد. المشاهدة هنا ليست بريئة؛ إنها تستهلك وتُباعد وتُزعزع. بكلمة "أعزائي المشاهدين" التي تفتتح المعرض، تخاطبنا سعادة مباشرة، لتذكيرنا بأننا جزء من هذه المعادلة، وأن مشاهدة المعاناة من دون اكتراث هو موقف بحد ذاته.
هذا المعرض هو انعكاس للإصرار الفلسطيني على الاستمرار في الحياة رغم انقطاعها، والبناء فوق الأنقاض، والبحث عن الجمال في قلب القبح.
رائدة سعادة لا تقدم لنا نهايات، بل تتركنا أمام تساؤلات مفتوحة، كأعمالها التي ترفض الاستسلام أو التفاوض أو القبول بأمر واقع. إنها تصنع فنّاً يكون فيه الاستمرار نفسه هو أعلى شكل من أشكال المقاومة، موجّهةً سؤالها إلينا جميعاً، نحن من نشاهد، عن دورنا وكيف نختار أن نستمر، وإلى أي ضفة من التاريخ ننحاز ونقف.