"صفصافة الصعيد"... مذكّرات بحجم الوطن

برزت د. عواطف عبد الرحمن في طليعة المعارضين للنهج الساداتي، وكانت أيضاً في قلب تظاهرات يناير1977 التي أسماها السادات انتفاضة الحرامية. 

  • "صفصافة الصعيد" لعواطف عبد الرحمن

تقف الدكتورة عواطف عبد الرحمن أستاذة الصحافة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة في مقدّمة أساتذة الإعلام والصحافة في كلّ الوطن العربي، ولن نغالي إذا قلنا في كلّ العالم الثالث. وذلك للخبرات العلمية والعملية الكبيرة التي امتدّت إلى أكثر من نصف قرن بشكل متواصل ومن دون أيّ انقطاع، حيث استطاعت أن تضع بصماتها واضحة جلية في كثير من المجالات والساحات. فمن محراب العلم في العديد من الجامعات إلى المشاركة السياسية والمجتمعية الفاعلة والمثمرة. 

وتؤمن تلك العالمة الجليلة بحتمية الاستثمار في البشر، ولذلك لم تنقطع علاقتها بتلاميذها حيث تحرص على التواصل معهم في المنتديات والندوات وداخل أروقة نقابة الصحافيين، وفي الصالون الذي تقيمه في منزلها مساء الجمعة من كلّ أسبوع حيث تستقبل تلامذتها من مصر والوطن العربي وأفريقيا، تسمع آراءهم وتناقشهم في مختلف القضايا. وحرصت د. عواطف على إيصال كلّ هذا الرصيد الإنساني والفكري إلى الأجيال العربية الجديدة فعملت على إصدار مذكّراتها وذكرياتها في جزئين كبيرين. وسوف يجد كلّ من يقرأ الكتابين أنه لم يقرأ فقط السيرة الذاتية للمؤلفة، ولكنه قرأ بالتوازي سيرة ومسيرة الدولة المصرية بل والوطن العربي على مدى أكثر من نصف قرن.

واختارت د. عواطف أن تبدأ من مسقط رأسها، تلك القرية البسيطة والتي تسمّى الزرابي، وتقبع بين النيل والجبل، وتتبع مركز أبو تيج التابع لمحافظة في قلب صعيد مصر. واستطاعت أن تقدّم تشريحاً مجتمعياً واقتصادياً وسياسياً لتلك البيئة الصعبة في فترة زمنية أكثر صعوبة حيث ولدت د. عواطف عام 1939 وسط الفرع الثري من عائلة كبيرة تحتوي على كثير من الفروع يعاني أفرادها شظف العيش. ولذلك نشأت هذه الطفلة محفور على خلاياها كراهية الفوارق الاجتماعية، وأحلام تهفو إلى تحقيق العدل الاجتماعي. ومن حسن حظها أنها قد عاشت طفولتها المبكرة في كنف جدّتها "صفصافة" التي تحمل المذكّرات اسمها تكريماً لها واعترافاً بفضلها. 

ويشعر القارئ وهو يطالع سيرة هذه السيدة أنها إحدى المنحوتات العملاقة التي خرجت من رحم شخصيات الملاحم الإغريقية، فهذه السيدة التي ولدت كفيفة لا ترى، ورغم جمالها الصارخ رفضت أسرتها فكرة زواجها حتى لا تعاني من جراح الشفقة أو الإهانة. ورغم ذلك نشأت وهي تمتلك كلّ فضائل الشجاعة والشموخ والحكمة ورجاحة العقل، وكانت تدير كلّ أعمال البيت بمقدرة فائقة، وقد كان هذا النموذج الذي جسّدته تلك السيدة ملهماً للطفلة الذكية اللمّاحة فقرّرت أن تكون رقماً صعباً ليس في أسرتها أو قريتها فقط، ولكن في كلّ الوطن في زمن كانت الفتاة في عموم مصر وخاصة في الصعيد لا تملك من أمرها أيّ شيء. ولم تجد د. عواطف أيّ حرج في أن تكشف عيوب أقرب المقرّبين منها، وفي مقدّمتهم والدها الذي كان بخيلاً ومسلوب الإرادة والشخصية أمام خالته. ذلك البخل الذي جعل هذا الرجل يفقد خمسة من أطفاله في عام واحد، مما جعل زوجته تصرّ على شيء عظيم في ذلك الزمان ألا وهو الطلاق، أصرّت على الطلاق لتنقذ من تبقّى من أطفالها ـــــ عواطف وعبد الرحمن ـــــ من المصير المحتوم. وكانت الأم السيدة بهية ابنة مهندس شهير وشقيقها طيّار، فجاءت إلى القاهرة لتعيش مع ابنيها مع أسرة شقيقها، وكان من المقرّر أن تلقى الطفلة عواطف المصير المحتوم لكلّ فتيات الصعيد، وهو الزواج المبكر لمن يطلبها من شباب وشيوخ العائلة، ولكنّ تفوّفها الدراسي الذي صادف إحدى نوبات الشجاعة النادرة لدى والدها أنقذها من المصير البائس.                              

اجتازت الفتاة الطموحة مراحل التعليم بنجاح وتفوّق حتى وصلت إلى الجامعة، واختارت كلية الآداب كما اختارت أن تدرس الصحافة. وكانت ثورة تموز/ يوليو 1952 بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر قد بدأت تؤتي ثمارها بتحقيق كلّ مفردات مشروعها العملاق الذي يحلّق بجناحي العدالة الاجتماعية والثقافة. وبالتأكيد كان التعليم في قلب الثقافة، وكانت حقوق المرأة في قلب العدالة الاجتماعية. وانطلقت الشابة الواعدة عواطف عبد الرحمن تشارك في كلّ الأنشطة والتظاهرات الجامعية التي تدافع عن فلسطين وعن الثورة الجزائرية، ومالت في فترة إلى القوميّين ثمّ إلى البعثيّين، ثم استقرّت على اختيار اليسار. ونجحت بتفوّق فأرسلها أستاذها د. "خليل صابات" لتعمل صحافية في جريدة الأهرام التي كان يرأس تحريرها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، وقد عملت تحت الإشراف المباشر للكاتب والصحافي ممدوح طه، الذي تزوجته كزوجة ثانية بعد وفاة زوجته الأولى، وأنجبت منه ابنها هشام، ولكنّ هذه التجربة لم تستمر إلا بضع سنوات وحدث الانفصال. 

ورغم تميّزها الصحفي وشهادة كلّ أساتذتها بأنها ستكون كاتبة صحفية من الطراز الأول إلا أنّ عشقها للبحث والدراسة واهتمامها بقضايا الوطن والأمة دفعاها دفعاً إلى طريق البحث الأكاديمي، ثمّ العمل الأكاديمي بعد ذلك، واختارت أن يكون موضوعها لرسالة الماجستير عن صحافة المقاومة في مساندة الثورة الجزائرية. وذهبت إلى الجزائر ومكثت شهرين في القصر الجمهوري ضيفة على الرئيس هواري بومدين. وبعد الماجستير كانت رسالتها في الدكتوراه عن الصحافة والمقاومة الفلسطينية، وكان من الطبيعي أن تكون د. عواطف عبد الرحمن إحدى مؤسسات كلية الإعلام في جامعة القاهرة عام 1975، تلك الكلية التي نشأت بعد عام واحد من انقلاب السادات على كلّ منجزات ثورة يوليو. وبرزت د. عواطف عبد الرحمن في طليعة المعارضين للنهج الساداتي، وكانت أيضاً في قلب تظاهرات يناير1977 التي أسماها السادات انتفاضة الحرامية. 

وراحت د. عواطف تنطلق بنشاطها العلمي والأكاديمي خارج مصر من خلال الحرص على حضور المؤتمرات العلمية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وقد ظهر نتاج كلّ هذا في العديد من الكتب المهمة التي تناقش الكثير من القضايا التي تهمّ دول العالم الثالث، كما كانت د. عواطف في طليعة الذين رفضوا زيارة السادات المشؤمة إلى الكيان المحتل في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، تلك الزيارة التي انتهت بمفاوضات كامب ديفيد وتوقيع معاهدة مع الكيان الصهيوني، تلك المعاهدة التي أعطت الصهاينة أكثر من أحلامهم وأوصلت المنطقة إلى كلّ ما تعاني منه الآن. وقد ضاق السادات ذرعاً بكلّ معارضيه فقرّر اعتقال أكثر من 1500 مصري في ليلة واحدة. وكانت د. عواطف ضمن قوائم المعتقلين، وكانت في ذلك الوقت تحضر أحد المؤتمرات في أوروبا الشرقية فقرّرت العودة إلى مصر ورفضت نصائح الأصدقاء بأن تظلّ في الخارج حتى تنزاح الغمّة. 

وتمّ القبض عليها في مطار القاهرة، وتمّ ترحيلها إلى السجن لتجد نفسها في زنزانة واحدة مع د. لطيفة الزيات ود. نوال السعداوي وصافيناز كاظم وبعض السيدات من جماعة الإخوان. وقد أرسلت الست بهية والدة د. عواطف خطاباً شديد اللهجة إلى السادات ذكّرته فيه بأنّ شقيقها خال عواطف قد استضافه لمدة عامين في الصعيد عند اتهامه في قضية مقتل أمين عثمان. ومن مفارقات هذه الفترة أنه عند إعلان اغتيال السادات يوم السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1981 وقفت السجينات اليساريات يصلين ركعتي شكر تؤمهنّ د. لطيفة الزيات. 

بعد الإفراج عن كلّ المعتقلين واصلت د. عواطف عبد الرحمن نضالها داخل الجامعة حتى حصلت على بعض حقوقها مثل رئاسة قسم الصحافة، أو تولّي منصب وكيل الكلية. كما خاضت تجربة الترشّح لمجلس النواب على قوائم حزب التجمّع بقيادة المناضل الوطني خالد محيي الدين واختارت دائرتها في قلب الصعيد، وصنعت معركة سياسية كبيرة. ولكنّ التزوير الفجّ لم يكتب لهذه التجربة النجاح، وراحت د. عواطف عبد الرحمن تواصل دورها الأكاديمي والتنويري لتصبح المرجعيّة الأهمّ في كلّ ما يخصّ الصحافة والإعلام مصرياً وعربياً وأفريقياً.            

اخترنا لك