"موانئ الرحيل": سردية الاغتراب والانتماء في رحلة المهاجر اللبناني

الرواية تقدّم صورة متوازنة للمجتمع التركي، بعيداً عن التبسيط. هناك شخصيات تركية متعاطفة، وهناك من يتعاملون مع العرب بتعالٍ واضح، والأغلبية الصامتة التي لا تكترث.

  • "موانئ الرحيل": سردية الاغتراب والانتماء في رحلة المهاجر اللبناني

تمثّل رواية "موانئ الرحيل" للكاتبة منال الربيعي وثيقة إنسانية تعكس تجربة الهجرة العربية واللبنانية بالأخص بكلّ تعقيداتها. هذه لا تكتفي بسرد أحداث، بل تغوص في تشريح التحوّلات النفسية والاجتماعية التي يعيشها المهاجر، من خلال حكاية زين وورد، الزوجين اللبنانيين اللذين يغادران طرابلس إلى إسطنبول بحثاً عن حياة أفضل.

التفاصيل الصغيرة التي تكشف الكبيرة

الرواية تبدأ بتركيز لافت على التفاصيل الدقيقة التي تتناول موضوع الهجرة. حقيبة السفر التي لا تتسع لكلّ الذكريات، نظرة الوداع الأخيرة لشوارع الطفولة، الصمت الثقيل في أول ليلة بالمدينة الجديدة ــ كلّ هذه التفاصيل الصغيرة تشكّل مجتمعة لوحة كاملة لأزمة الاغتراب. الكاتبة منال الربيعي تخصص مساحة كبيرة لوصف اليوم الأول في إسطنبول: البحث عن شقة، صعوبة التواصل مع السكان المحليين، حتى طريقة الجلوس في المواصلات العامّة. هذه التفاصيل اليومية التي قد تبدو تافهة هي في الواقع جوهر تجربة الهجرة الحقيقية.

صراع الهوية: بين الحفاظ على الذات والتكيّف مع الجديد

إحدى أهمّ نقاط الرواية هي معالجتها لموضوع الهوية. زين وورد ليسا مجرّد مهاجرين، بل شخصيات تعيش صراعاً يومياً بين ما تريد الاحتفاظ به من ماضيها وما تضطر إلى تقبّله من حاضرها الجديد. مشاهد تعلّم اللغة التركية مثلاً ليست مجرّد أحداث عابرة، بل معارك صغيرة تخوضها الشخصيات للحفاظ على كرامتها. ذلك المشهد الذي تصحّح فيه ورد لهجتها التركية للمرة العاشرة أمام سيدة تركية متعجرفة، ثم تفضّل في النهاية الصمت، يختزل مأساة كاملة.

الاقتصاد: الجانب المهمل من قصص الهجرة

تركّز الرواية على الجانب الاقتصادي من معاناة المهاجرين فمتجر زين الصغير ليس مجرّد ديكور للقصة، بل شخصية رئيسية بحدّ ذاتها. الرواية تشرح بالتفصيل معاناة الحصول على ترخيص، صعوبات التعامل مع المورّدين الأتراك، وحتى معضلة تسعير البضائع بشكل يناسب الزبائن من مختلف الطبقات. هذه التفاصيل الاقتصادية التي تبدو تقنية تتحوّل تحت يد الكاتب إلى أدوات كاشفة لعلاقات القوة في المجتمع.

الأسرة: الوحدة الأخيرة للانتماء

في خضمّ كلّ هذه التحوّلات، تبقى الأسرة الملاذ الأخير. ولادة عمر لا تمثّل مجرّد حدث سعيد، بل نقطة تحوّل في رؤية الشخصيات لأنفسهم. كيف تربّي طفلاً في بيئة غريبة؟ كيف تشرح له أنّ جذوره في مكان مختلف عن مكان ولادته؟ هذه الأسئلة تطفو على السطح في مشاهد عديدة، خاصة ذلك المشهد المؤثّر حيث تحاول ورد أن تشرح لابنها معنى كلمة "وطن" باستخدام خريطة مهترئة. مع ولادة الطفل الجديد، تدخل الرواية مرحلة جديدة من التعقيد. هنا يبرز سؤال الهوية بكلّ وضوح: كيف تربّي طفلاً في بلد لا تعتبره وطناً؟ كيف توازن بين تعليمه لغة وثقافة بلد الإقامة مع الحفاظ على جذوره؟ هذه الإشكالية تتجلّى في مشاهد عديدة، الكاتبة هنا تلامس أزمة الجيل الثاني من المهاجرين، الذين يحملون هويات مشتّتة بين مكان الولادة وأرض الأجداد.

المجتمع المضيف: بين القبول والرفض

الرواية تقدّم صورة متوازنة للمجتمع التركي، بعيداً عن التبسيط. هناك شخصيات تركية متعاطفة، وهناك من يتعاملون مع العرب بتعالٍ واضح، والأغلبية الصامتة التي لا تكترث. هذا التنوّع في التصوير يمنح العمل مصداقيّة نادرة.

الزلزال: اختبار حقيقي للانتماء

الزلزال المدمّر الذي يضرب إسطنبول لا يأتي كحدث مفاجئ، بل كتتويج تراجيدي لكلّ ما سبق. مشاهد البحث بين الأنقاض تكتب بتقشّف مؤثّر يبتعد عن الاستغلال العاطفي. عندما تضرب الكارثة، تتحوّل الرواية إلى دراسة نفسية عميقة. البحث عن الأحباب بين الأنقاض، اليأس ثم محاولة النهوض، الأكثر إثارة هو ذلك السؤال الذي تطرحه الرواية من دون أن تجيب عليه مباشرة: هل يعتبر المجتمع المضيف هؤلاء المهاجرين جزءاً منه حتى في لحظات المأساة؟

الختام

"موانئ الرحيل" هي ثالث رواية للروائية منال الربيعي بعد "حتى آخر العشق" و"الخط الفاصل" وهي ليست مجرّد رواية عن الهجرة، بل وثيقة إنسانية تسجّل لحظة تاريخية حرجة في حياة الملايين من العرب. تلك الرحلة الشاقة بين ذكريات الماضي وأحلام المستقبل. الرواية تنجح حيث تفشل الكثير من التقارير الإخبارية والدراسات الأكاديمية: في تقديم وجه إنساني مقنع لتجربة الهجرة، بعيداً عن الأرقام المجرّدة والخطابات السياسية المعلّبة.

في زمن تكثر فيه الخطابات السياسية الجافة عن الهجرة، تأتي "موانئ الرحيل" لتذكّرنا بأنّ وراء كلّ إحصائية هناك إنسان، وراء كلّ رقم هناك قصة، وراء كلّ سياسة هناك دموع.

اخترنا لك