الاستبدال الثقافي: ولع المغلوب بتقليد الغالب
الرأسمالية التي لن تكون يومياً إلا مغمسة بالدم، لا تتمدد هذه المرة على حساب دماء عمّال مصانع الغرب والشمال، بل على حساب دماء الكادحين في الشرق والجنوب.
للهيمنة أشكال تتجاوز الهيمنة العسكرية التي تفرضها الجيوش بأدوات قتلها الغاشمة، وتتجاوز الهيمنة الاقتصادية بوسائل اقتصاد السوق، ونهب الثروات، وإجبار الدول على تبنّي نهج اقتصادي يتناقض مع مصالحها.
الهيمنة الأخطر هي السيطرة على عقول الشعوب، واستبدال ثقافتها بثقافة عالمية جديدة. أن نصبح نحن... هم. ولأننا لا نمتلك إمكانياتهم وقدراتهم العلمية والاقتصادية، نتحول إلى تابعين بلا هوية حقيقية، ونغرق ما بين جلد الذات أو استدعاء هويات فرعية إثنية وجهوية وطائفية. تستولي الثقافة العالمية على كل تفاصيل المجتمع من خلال منظومة معقدة تشمل الأدب، والسينما، والتاريخ واللغة، والفكر.
الخطوة الأولى تدمير صورة الذات، تحت وطأة الهزائم العسكرية في الحروب غير المتكافئة، والأزمات الاقتصادية التي تصنعها الرأسمالية، وتشويه تاريخ الشعوب من خلال الآلة الإعلامية الغربية الضخمة، حيث يرى أصحاب البلاد أنفسهم بشراً من الدرجة الثانية.
أمام "فقرة الساحر" التي تقدمها الرأسمالية من تقنية تصل إلى أدق التفاصيل حتى لو اختبأ أعداء الرأسمالية على عمق عشرات الأمتار، ديمقراطية لا تعرفها الشعوب المقهورة، فالمواطن يمكن أن يشتم رئيس بلاده من دون محاسبة، ورئيس الوزراء يذهب إلى عمله مستعملاً دراجة هوائية، والرئيس يتغيّر كل فترة ليظهر لنا وجه جديد، واستعراض القوة العسكرية بتدمير وقتل شعوب ضعيفة، والحرية التي تعمّ على الجميع، حتى على خصوم الرأسمالية، الذين يهربون من بلادهم إلى معاقل الرأسمالية ليتمتعوا بنفحات من تلك الحرية. هكذا تتحول قضايا الأمم من الحرية والكرامة والاستقلال، إلى بذل الدماء في سبيل التشبّه بالاستعمار والسير على خطاه.
عند هذه النقطة تتحول الضحية إلى "فيروس" قاتل داخل مجتمعها. ينتج هذا "الفيروس" ثقافة المستعمر وشروطه. يدافع عن جرائم المستعمر، ويحمل الضحايا المسؤولية عن شقائهم. تنظر الضحية إلى نفسها بعيون المستعمر، بوصفها فرداً من مجموعة "أدنى" من البشر تمتلك ثروات طائلة، يمكن للمستعمر أن يديرها "بحكمة وشفافية" لتعيش برخاء يشبه ذلك الذي تعيشه شعوب ما يسمى "عالم الشمال"، وتتمتع بنفس الديمقراطية والحرية.
تتلاشى الثقافات الوطنية تدريجياً وتتحول المجتمعات إلى أدوات تنتج شروط استعبادها. وإذا استدعت الظروف حضور المُستعمِر بنفسه، فإنه سيجد شعوباً مهزومة من الداخل وجاهزة لاستقباله، ولو تململت قليلاً إلا أنها مسكونة بوهم مفاده أن انتصار الاستعمار قدر عليها القبول به.
بعد انتصار الاستعمار تتحول الدول الفقيرة إلى دول غنية، ويغيب سؤال بديهي: إذا كنا دولاً فقيرة لماذا يسعى الاستعمار لنهبنا، ويخوض حروباً تكلف مليارات الدولارات للهيمنة على بلادنا، هل هي نزعة الاستعمار الإنسانية، أم هي كذبة تاريخية صاغها الاستعمار، وسوقتها أنظمة التبعية والفساد المستفيدة منه؟
هكذا يصبح الإنسان أسير معادلة "الحقيقة" التي وصفها جورج اورويل في روايته "1984" لكن هذه المرة بمصطلحات جديدة حيث يصبح السلام يساوي الاستسلام لشروط المستعمر وتقديم كل التنازلات التي يطلبها. أما الديمقراطية فتساوي الخضوع لشروط المستعمر السياسية والاقتصادية. ثم الحرية التي تصير المعادل للتنازل عن ثقافة الأمة وارتداء ثوب المستعمر،
والوطنية التي تساوي أن تصبح عميلاً للمستعمر بحجة الواقعية، ثم الثورة التي تصير معادلاً لأن نثور على أنفسنا لنصبح مثلهم. هكذا تصبح جرائم الإبادة أيضاً تطهير فلول النظام السابق، وتتحول المقاومة إلى فعل متهور لا يأخذ مصالح الشعوب بعين الاعتبار وقد يصل إلى الإرهاب.
آلاف المعادلات الاستعمارية تفرض علينا كل يوم، من دون أن نلتفت إلى التغيير الذي يطرأ على مجتمعاتنا. نهرع إلى كل مُنتَج رأسمالي، نستهلك... ونستهلك. عدونا يتقدم ونحن نتراجع، وكل خطوة إلى الوراء مغمسة بدماء "من قال لا.. في وجه من قالوا نعم".
لكن الرأسمالية التي لن تكون يومياً إلا مغمسة بالدم، لا تتمدد هذه المرة على حساب دماء عمّال مصانع الغرب والشمال، بل على حساب دماء الكادحين في الشرق والجنوب.
عندما ندرك حقيقة مفادها أن الصرخة الثورية هي نفسها، بغض النظر إذا هتف الثائر "يا عمال العالم وشعوبه المقهورة اتحدوا"، أو "هيهات منّا الذلة"، أو "إنّه جهاد.. نصر أو استشهاد"، هي التي تشكل السد في وجه ثقافة المستعمر، إذا رفعت في وجهه، وحملت البندقية لهزيمته.
وعندما ندرك أن العدو يرانا دماً واحداً لا مانع من سفكه في سبيل مصالحه، بغض النظر عن ديننا أو طائفتنا أو حتى موقفنا منه، فهو لا يتورع عن قتل عملائه، كما يقتل خصومه، عندها فقط نستعيد أنفسنا من هيمنة ثقافة المستعمر، ويتحول لهيب المعارك إلى شعلة تنير درب الأحرار.