الانحطاط الممنهج في العصر الرقمي
إن التغول الرأسمالي، الذي تجسده سيطرة الشركات متعددة الجنسيات واحتكارها للتكنولوجيا الرقمية، لم يعد يكتفي بتحويل كل شيء إلى سلعةٍ قابلةٍ للاستهلاك، بل صار يُسلّع الإنسان نفسه.
-
(أنجيلا يانكوفيتش)
لا يمكن فصل ظاهرة "أيقنة" النماذج الاستهلاكية المشبوهة، ونشرها كأمثلة للنجاح، عن سياق أوسع يُعرف بسياسات الانحطاط المُعولمة. هذه السياسات ليست هامشية، بل تمثل إحدى الآليات الأساسية التي تعيد بها الرأسمالية في مرحلتها "المتوحشة" إنتاج هيمنتها في العصر الرقمي، متجسدةً في صورة "أفيون جماهيري" جديد.
في خضم الأزمة البنيوية التي يمر بها النظام الرأسمالي العالمي، والتي يتجلى فيها الاضطراب الهائل عبر صعود النزعات العدوانية وتفكيك مفهوم الدولة القومية، لم يعد الهم المركزي للنخب المالية العالمية هو إنتاج قيمة حقيقية، بل إنتاج اللامعنى. يتم ذلك عبر تشويش الذوق العام وترويض الوعي الجمعي على تقبل نماذج "نجاح" فارغة، في عملية لا تهدف إلا إلى حجب النقاش الجدي حول الأسئلة المصيرية: من يملك؟ من يتحكم؟ ولمصلحة من؟
إن التغول الرأسمالي، الذي تجسده سيطرة الشركات متعددة الجنسيات واحتكارها للتكنولوجيا الرقمية، لم يعد يكتفي بتحويل كل شيء إلى سلعةٍ قابلةٍ للاستهلاك، بل صار يُسلّع الإنسان نفسه، مقدماً إياه كمادة استعراضية في سوق الشهرة السريعة. هنا، يصبح "نجاح" "الكارداشيان" ومثيلاتها لا مجرد ظاهرة ثقافية عابرة، بل أداة طبقية بالغة التعقيد، تخدم عدة أهداف:
- التعتيم على التناقضات الهيكلية عبر أسطورة الجدارة: بينما تتصاعد الفجوة الرقمية واللامساواة الاجتماعية إلى مستويات غير مسبوقة، يتم تسليط الضوء الخادع على حفنة من "النماذج" التي تُظِهر وكأن الثراء الفاحش متاح للجميع بمعجزة إبداعية أو ذكاء تجاري فذ. هذه ليست سوى إعادة إنتاج معولمة لأسطورة "الجدارة الليبرالية" التي تخفي حقيقة أن الثراء الحقيقي يُورَّث ويُكتسب عبر شبكات مغلقة وعلاقات نفوذ، لا عبر الجهد الفردي الخالص.
- إفراغ الثقافة من مضمونها النقدي وتحويلها إلى سلعة: بتوظيف آليات العولمة الثقافية، يتم تحويل المنصات الرقمية إلى ساحات استعراض دائمة للمظاهر المادية الباذخة، وترويض المجتمع على ثقافة استهلاكية موحدة تمحو الخصوصيات وتقزم الإبداع. فـ "الرأسمالية الرقمية" لا تكتفي بالتحكم في البيانات وتوجيه الخوارزميات، بل تتحكم في الرغبات وتصوغ الأحلام، مشيدةً عالماً من الوهم حيث السعادة تُشترى بعلامة تجارية فاخرة، والنجاح يُقاس بعدد المتابعين، في عملية استلاب شبه كامل للهوية.
- إلهاء الطبقات الاجتماعية عن مصالحها الحقيقية: في وقت كان من الممكن أن تشتعل فيه الاحتجاجات العمالية والاجتماعية ضد تفاقم الأزمات الاقتصادية والمناخية، نجد أن الانحطاط المقنّع بثقافة البوب والمؤثرين يصبح أفيوناً جديداً للجماهير. فبدلاً من تنظيم الغضب الشعبي تجاه من يستفيد من "البلوتوقراطية" (حكم الأثرياء)، يتم توجيهه إلى متابعة حفلات الزفاف الباذخة والجدالات التافهة حول حياة المشاهير، في عملية إلهاء ضخمة تُبعد الناس عن مساءلة مشروعية السلطة والثروة.
- إفساد مفهومي العمل والقيمة وإضفاء الشرعية على الاقتصاد الافتراضي: في النظام الرأسمالي التقليدي، كان هناك وهمٌ رابط – ولو نظرياً – بين الجهد الاقتصادي والقيمة المُنتَجة. أما اليوم، ومع صعود "رأسمالية المنصات"، فإن فائض القيمة لم يعد يُستخرج من العمالة المنتجة فحسب، بل من البيانات والانتباه والهوية الشخصية التي يجري تسليعها. النموذج الذي تقدمه هذه الأيقونات الاستهلاكية هو ذروة هذا الانزياح: فالقيمة لا تُخلق عبر الإنتاج أو الإبداع الجاد، بل عبر الاستعراض والترميز الأيقوني للثراء.
- إضعاف القدرة على المقاومة وإفقار الخيال الاجتماعي: تسهم هذه السياسات في تطويق أي إمكانية لبديل. فعبر تحويل النجاح إلى مسألة "ترند" واستعراض، يتم تجيير الطاقات الشبابية نحو السعي الفردي للشهرة السريعة، بدلاً من تنظيمها في مشاريع جماعية تهدف إلى التغيير الاجتماعي أو الاقتصادي. هذا يتجسد في الفجوة الرقمية الهائلة التي يعاني منها الفكر النقدي والتوجهات التقدمية، والتي تجعله عاجزاً عن مواجهة "آلة الرأسمالية الرقمية" الجبارة التي تمتلك أدوات السيطرة على الوعي وتشكيله.
خلاصة القول، إن صعود هذه النماذج ليس ظاهرة بريئة أو محايدة، بل هو أحد أسلحة الحرب الناعمة التي تشنها الرأسمالية في مرحلتها المتوحشة الحالية. إنها سياسة انحطاط مُمنهجة تهدف إلى تطبيع الهيمنة الطبقية الجديدة، وترويض البشر على قبول أن يكونوا مستهلكين سلبيين، لا فاعلين ناقدين، وذلك لضمان استمرارية نظام يزداد غنىً في قمته، ويزداد فراغاً واستغلالاً في قاعدته.
مواجهة هذا الانحطاط تتطلب أكثر من بناء وعي نقدي رصين، بل وتشييد فضاءات رقمية بديلة تعيد ربط الإنسان بجوهر وجوده المجتمعي وتحرر أحلامه من سطوة التسليع والانحطاط، إذ لا يمكن خوض هذه المواجهة من دون امتلاك أدوات العصر الرقمي، والوصول إلى الرأي العام كي تنكشف أمامه الحقائق. فالحقيقة هي أولى خطوات الحرية.