العالم السفلي للمدينة في رواية "كوك نزر" لعزيز الشعباني

الكاتب يشرك القارئ في النصّ عبر صدمه مرّة بتوجيه الخطاب له بشكل مباشر، ومرة أخرى عندما يفتح آفاق التأويل والاحتمال أمامه ويتركه عالقاً في اختيار الأجوبة والنهايات التي قد تتعدّد وتتنوّع تبعاً لخلفيّة وثقافة كلّ قارئ. 

  • العالم السفلي للمدينة في رواية
    العالم السفلي للمدينة في رواية "كوك نزر" لعزيز الشعباني

تحتلّ العبارة الأولى في أيّ نصّ روائي حجر الزاوية الذي يثقل به العمل لناحية التقاط اهتمام القارئ ودفعه للمتابعة في تلقّي ما تلاه ومتابعة تفاصيل النص، وهذا ما كان في رواية عزيز الشعباني الأخيرة "كوك نزر" الصادرة عن دار "قناديل للنشر والتوزيع" عام 2025 التي بدأها بعبارة "لم تكن كوك نزر بمزاج طيب عندما دخلنا شقّة الخال". فمنذ العنوان لم نعرف من هي "كوك نزر" هل هي امرأة أم حارة أم مدينة مثيراً انتباهنا وتشويقنا في التعرّف إلى معانيها اللاحقة، ومن هو الخال الذي يجتمعون إليه ليدخلنا تدريجياً في التعرّف إلى شخوص العمل وهو يؤثّث عمارة النص بوصف المدينة الغارقة بأوحالها وأولئك الذين يتمرّغون على أرصفتها، ولا سيما المتشرّد الثمل دائماً ذو العين الواحدة والذي سيفاجئنا بمن هو في نهاية النص.

يحاول صاحب "طاعن بالسرّ" أن يصوّر العالم السفلي لمدينة المشرّدين؛ والموسيقيين؛ والمثليين؛ والسياسيين؛ والمهرّبين؛ وتجّار الأفيون الذين يجتمعون في شقّة الخال الذي أطلق عليها اسم العشّ حيث يندمج الراوي والبطل بلسان واحد "جمال" الذي يدخل معنا عالم الرواية وهو يزاوج بين الحلم والواقع، وكأنه عالم مجهول يكتشفه ويكتشف ذاته معنا، وهو لا ينفصل عن نفسه بصفته راوياً ولكنه في الوقت نفسه كاتب يعمل على كتابة رواية. وهنا يخاتل القارئ في ذكره لشخوص النص أهي من ضمن النص الذي يكتبه أم أنه يروي ما يراه ويحصل معه وكأنها تقنية حكاية ضمن حكاية، وهو في غمار ذلك يفكّك أسرار الشخصيات وكيف وصل كلّ منها إلى هذا المكان. 

فملاك العاهرة الجميلة تختبئ وراءها حكاية كبت وبيئة قاسية ومتشدّدة أغلقت عليها أبواب الحياة لتجد متنفّساً لها لدى الجارة الأرملة لتعلّمها فنّ الطهي، والتي اشتعلت مع ابنها قصة هيام وغرام كانت السبب بهروبها من المنزل إلى العراء حيث تلقّفتها أيدي البغاء. وهكذا هو أسلوب الشعباني في تناسل الشخصيات من بعضها فمن شخصية ملاك ولدت شخصية زوجها المقامر الذي يسرق مالها، وشخصية شروق الأرملة الملقّبة بالعجميّة وحكاية امرأة تقلّبت بها الظروف ودارت بها سبل الحياة.  

وكذلك تتناسل من شخصية فؤاد زاجل المتشظّي في عالمين إذ ينوس بين مجتمع الفنّ والطرب والعشق وبين بيئته الدينية المتشدّدة، فهو يصطحب معه إلى العشّ صديقه المقرّب سرمد ذا الميول المثليّة وخلاف أبويه وهو المجنّد في الخدمة ذو الصوت الشجي بضيافة الخال صاحب المكان الذي يجتمعون عنده>

أما الشخصية المحورية الأهم والتي تدور أغلب الشخصيات في ركابها... لتخفي وراءها صاحب أكبر مافيا تسيطر على دور البغاء وتهريب الخمور والمخدّرات، وهو الذي استفاد ببداية حياته من اقترانه بقريبة الدكتاتور ومن خلال تفانيه في خدمته وصل إلى مراتب عليا في الجيش والقوات الحكومية، ولم يتأثّر بعد السقوط نظراً للثروة التي جمعها خلال ذلك الوقت، إضافة لما ورثه من زوجته. وهنا يستوقف الراوي قارئه متسائلاً ماذا يفعل المتمسّحون بجلده والمسبّحون بحمده؟! كيف يغيّرون خطابهم وكيف تسير حياتهم هل من الممكن أن يستأصل المكان والناس والذاكرة. 

ولا ينسى الكاتب هنا تصوير المنظّمات الإنسانية التي تعتاش من مصائر النساء اللواتي قتل أهاليهم من قبل "داعش" بدلاً من أن تسعى لتغيير واقعهنّ المظلم.

 الكلّ يلبس أقنعة والمشكلة أنها واضحة تماماً من... تاجر الخمور إلى رجل السياسة اجتمعوا في شخصية ترى الفردوس نساء وأباريق ورجلاً يتكئ على كأس.

الراوي "جمال" يراوغ القارئ في تجسيده لشخصية الروائي الذي يحاول تغيير أقدار إحدى شخصياته التي تتمرّد عليه وتحاوره بسخرية واعتراض: "كيف تخلق شخصية وتطلب منها بعد ذلك أن تحاسبها؟ ومحاولة انتقاده في حواره مع رياض زوج ملاك ليسأل ذاته ما هو هدف الروائي بدقة؛ أهو كتابة الرواية، أم عيش الرواية كبطل من أبطالها في واقع ما. وبالمقابل تراه يواري سخرية من تورّم الأنا لدى الكاتب الكبير عند احتفاء أولئك المهمّشين به "أهلاً بالروائي الكبير ـــــ ووداعاً حضرة الراوي الكبير". 

لينقلنا بعدها إلى المتن بوصفه أحد شخوصها وهو يتساءل عن تلك الأحاسيس الغامضة التي يعيشها تجاه إحدى النساء التي تحيطه بهالة مغناطيسية جاذبة لنتعرّف في النهاية إلى اللغز... 

يستمر الكاتب في بلبلة انتباه القارئ ومخاتلته في عدة زوايا فأحياناً يتحوّل الراوي إلى مربية لشخوص الرواية وهو يسرد حيواتهم، وأحياناً يخاطب القارئ بصفته متربّصاً لمكائده ومترصّداً لانزلاقاته أحياناً أخرى، بحيث يجيب قبل أن يسمع الانتقاد المفترض أو حين تتمرّد الشخصيات ولا تردّ عليه بصفته خالقاً لها، ليضعنا أمام احتمال آخر وهي قصة فشله ككاتب في كتابة الرواية في جانب ثانٍ، إذا افترضناه يكتب رواية عن سيرته، وينتهي النصّ والقارئ حائر ومتفكّر في مرامي ومقاصد الكاتب. ولكني أقول إنه يجمع كلّ ذلك وهذا من ملامح ما بعد الحداثة أن يتداخل الحلم مع الواقع وأن يشرك القارئ في النصّ عبر صدمه مرّة بتوجيه الخطاب له بشكل مباشر، ومرة أخرى عندما يفتح آفاق التأويل والاحتمال أمامه ويتركه عالقاً في اختيار الأجوبة والنهايات التي قد تتعدّد وتتنوّع تبعاً لخلفيّة وثقافة كلّ قارئ. 

اخترنا لك