"لعنة باب عكّا": رواية النكبة وسيرة المقاومة

لغة هذه الرواية اعتمدت على السرد التفصيلي المباشر، مع اعتماد الرواية بشكلٍ أساسيّ على قوّة التأريخ والمعرفة

  • رواية
    رواية "لعنة باب عكّا": رواية النكبة وسيرة المقاومة

يسرد الروائي مروان طرّاف في روايته الأولى "لعنة باب عكّا" الصادرة عن دار رياض الريس 2025، مصير العائلة الفلسطينية المسيحية التي كانت تعيش في مدينة عكّا، وحين وقعت نكبة 1948 مع هجوم  الهاغاناه على المدينة، لجأت العائلة إلى لبنان وأقامت في منطقة رأس بيروت، كما يسرد الروائي تفاصيل الحياة التي عاشتها العائلة في بيروت، وأضاء على كلّ المراحل التاريخية والحروب التي مرّت بها، من فترة الخمسينيات إلى الثمانينيات، من حرب السنتين إلى الحرب الأهلية حتى الاجتياح الإسرائيلي 1982، مع التركيز على جوهر الصراع في كلّ مرحلة، ويؤكّد أهميّة وجود المقاومة إن وجد العدوّ الصهيوني في مسيرة النضال الفلسطيني واللبناني الذي تصوّرهُ الرواية كأنّهُ "طريق الجلجلة" في تراجيديا النكبات المستمرة، في تأريخ مباشر للحقب السياسية، حيث إنّ لغة الرواية اعتمدت على السرد التفصيلي المباشر، مع اعتماد الرواية بشكلٍ أساسيّ على قوّة التأريخ والمعرفة الحقيقية من دون الدخول في دهاليز الخيال أو المجاز، ولا نخطئ إن سمّيناها رواية التوثيق والواقعية التاريخية. 

هي سرديّة درب الآلام المستمرة، وسرديّة الانتماء والهويّة، وتعدّد الأمكنة في ظلّ اختلاف الأزمنة، حيث وجود العائلة المسيحية الفلسطينية في منطقة رأس بيروت وتفتّح الوعي السياسي على بطل الرواية الذي هو "حبيب حوّا" حيث ولد وترعرع في بلد اللجوء لبنان، وتفتحت به الأسئلة الأولى عن كيفيّة مقاومة الاحتلال، ولا سيما حين عاصر عملية الكومندوس الإسرائيلي في مطار بيروت سنة 1968، وبدأ يدخل نشاطه السياسي مرحلة النضوج، يظهر ذلك في صفحة رقم "90" من الرواية:

"واجه حبيب، العالق في خضمّ هذه الاضطرابات، الحقائق الصارخة المتمثّلة بالتنقّل بين المساعي الأكاديمية والنشاط السياسي، في مدينة رقصت على حافة الهاوية وشاهدت أقسى القتل والدمار، وسط إقليم يعاني من ازدحام الحركات الثورية، والأفكار التقدّمية والانقلابات والمؤامرات والدعوات لمكافحة الرجعية والنهوض بوجه الظلم والطغيان". 

وكما يظهر البطل حبيب حوّا برمزيّة المناضل الفلسطيني الذي انخرط في النضال والمقاومة من أجل فلسطين من دون أن يعيش فيها أو يراها. ومن أهمّ الحكايات التي سمعها من والدته عن فلسطين والعمليات الفدائية التي نفّذت دفاعاً عنها، هي عملية مطار اللد الأولى في 8 أيار/ مايو 1972 التي نفّذها الشهيد علي طه، وهو صديق عائلته، فتأثّر بهذه العمليات الفدائية البطولية. فأكمل حبيب تعليمه في الجامعة الأميركية وتخرّج مهندساً معمارياً، وذلك أفادُ في معرفة الأماكن التاريخية مثل خريطة قلعة الشقيف، وأفاد أيضاً فصائل المقاومة الفلسطينية وحركة فتح بالتحديد في تلك المرحلة التاريخية، حيث تعرّف إلى علي أبو طوق أحد أبرز القادة الميدانيين في الكتيبة، حيث طلب منهُ تأمين خرائط طوبوغرافية قديمة لقلعة الشقيف من الداخل، وقد علم بوجودها ضمن محفوظات مكتبة كلية الهندسة في الجامعة الأميركية.

ولا تخلو الرواية من توثيق الإبادة والمجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا، وتحدّث بطل الرواية عن تجوال الجزّار شارون في شوارع بيروت، مبيّناً رؤية المشروع الصهيوني التوسّعي الذي لا يقف عند مكانٍ أو بلدٍ محدد في إبادتهِ للشعبين الفلسطيني واللبناني وكلّ من يقف في وجه هذا المشروع الإجرامي النازي، حيث نجحت الرواية في تصوير كلّ هذه المحطّات التاريخية التي يجب ألّا تُنسى، يقول في صفحة رقم "156":

"اجتاح شارون بجيشه شوارع بيروت، وجال جنوده في مناطق الحمرا والروشة والرملة البيضاء براحة واطمئنان، وجلسوا في مقاهي شارع الحمرا واحتسوا القهوة وطلبوا الحساب، فأتاهم بالليرة اللبنانية، وكان الصرّافون غائبين، فأرادوا دفعها بالشيكل، إلا أنّ النادل رفضها، تشاجروا معهُ، فقال ضابطهم: - تعوّدوا تداول الشيكل، فستتعاملون به من اليوم فصاعداً، انظروا ما أجمل صورة موسى بن حاييم منتفيوري عليه، ومن خلفه طواحين القدس".

وتنتقل الرواية من فصل حبيب حوا إلى فصل بطولة عباس ابن الجنوب اللبناني الذي عاش ضحية قتل "الكتائبيين لأهله في الحرب الأهلية" فعاش يتيماً بشخصيته الانطوائية، وهنا يبيّن الروائي آثار الحرب وتأثيرها على الجيل الذي عاشها وحمل آثارها الدامية، آثار لا تزول مع تقادم الزمن. يروي أديبنا مروان طرّاف سيرة عائلة عباس حيث كان بيت أم عباس ملاصقاً لقلعة الشقيف في بلدة أرنون الصغيرة، وبين صراخ الأم التي لم تتوقّف وهي تطلب من ابنها عباس الذهاب إلى النبطية، في ظلّ صعوبة الحياة تحت الحرب وانقطاع الهواتف بين صيدا وبيروت، حيث تنقطع معها الأخبار، ويسرد تفاصيل المعارك مع الكتائب أمام مستشفى الكرنتينا ودخولهم إلى مخيم المسلخ الذي يقع عند مدخل بيروت من ناحية المرفأ.

الرواية غنية بسيرة المقاومة الفلسطينية والنكبة وتأريخ الحروب التي شنّها العدو الصهيوني وعملاؤه على لبنان، كما أنّها أضاءت بشكل وفير على التاريخ والمعارك التي وقعت في المدن والأماكن في لبنان وفلسطين، وتنبش في عمق المعارك القديمة مع الصليبيين والأمويين في منطقتنا مروراً بالمعارك المعاصرة، وذلك جعل الرواية صلبة الترابط بين التاريخي والواقعي في آنٍ معاً، إنّها أشبه برحلة المسيح الناصري في دروب الألم، وبين فلسطين ولبنان يمرُّ درب الآلام الذي لا ينتهي عند مجزرة أو معركة، ما دام الإجرام الصهيوني يحتلّ الأرض والإنسان، سيبقى الوعي بمفهوم المقاومة يولد فينا، ويُختصر معنى باب عكّا أنّهُ طريق العودة المقبلة، مهما فاض بالشهداء.

اخترنا لك