زياد الرحباني.. غريب في الديار
اختنق الرجل على دفعات بعد أن احتشد قاموسه بمفردات الأسى من جهة، وأذى الآخرين، حيال مواقفه وأفكاره وسخريته، من جهةٍ أخرى. لكن موسيقاه، مسرحياته، أغانيه، ستبقى أيقونة عصية على النسيان.
-
ما غنمه زياد الرحباني من ميراث العائلة حوّله بخيمياء سحرية إلى ميراثه الشخصي
انطفأ زياد الرحباني (1956- 2025) في لحظة لم تعد تشبهه، فهو غريب في الديار، كلّ ما حوله ينبئ بالكارثة والهوان والتفاهة. سراج عتمة، ويأس مطبق، كما لم تعد حقنة الفكاهة المرّة التي كان يسرّبها إلى الشرايين، تؤثّر في الجسد المريض. انسحب من المشهد من دون أن يردّد هذه المرّة "إيه في أمل" أو "بعدنا طيبين، قولوا الله".
اختنق الرجل على دفعات بعد أن احتشد قاموسه بمفردات الأسى من جهة، وأذى الآخرين، حيال مواقفه وأفكاره وسخريته، من جهةٍ أخرى. لكن موسيقاه، مسرحياته، أغانيه، ستبقى أيقونة عصية على النسيان.
عبقريته المبكّرة وضعته في لجّة الموجة نحو فضاء آخر، كما لو أنه يعيد وصل الخيط المقطوع مع سيد درويش، كلاهما كتبا نبض الشارع الشعبي من موقع مضاد. فهذا موسيقي عبث بالنوتة الراسخة، وابتكر سلالم موسيقية جديدة مشبعة بطرب شرقي غير مألوف، وبكلمات ملتقطة من اليومي المهمل وزجّها في صلب شعر العامية غير مكترث بالذائقة المستقرة.
هكذا تجاور البيانو والبزق في لحن واحد، كما لو أنهما من عائلة واحدة. كانت معركته الموسيقية الأولى مع سلالته الرحبانيين المؤسسين، معركة بدأت بألعاب نارية مسلية، قبل أن تطيح بالخصم في عقر داره.
هكذا نصب كميناً محكماً لموسيقى الأب والعم قبل أن يعلن نوتته الشخصية وانشقاقه عن المدرسة الأم. أنجز فتى السابعة عشرة أغنية "سألوني الناس عنك يا حبيبي" كتحية لوالده الراحل، وكمرثية للأم المفجوعة، ثم مضى مفرداً إلى شوارعه وحاناته ومسرحياته، وصناعة فرجة مضادة في توصيف الخسارة وعفن الحرب الأهلية اللبنانية التي باغتته في أول الطريق.
إلّا أنّ هذه الحفرة منحته في المقابل كنوزاً موسيقية يصعب على سواه أن يحقّقها بمثل هذه البراعة والعبقرية والتمرّد، وإذا لكلّ واحد من جيله وما تلاه حصته من وليمته بتوابلها الحرّيفة ونكهتها التي لا تتكرّر.
ما غنمه زياد الرحباني من ميراث العائلة، حوّله بخيمياء سحرية إلى ميراثه الشخصي. هجر "ضيعة الرحابنة" ومخاتيرها، وحكماءها وطرابيشها، و"لبنان يا أخضر حلو"، مستكشفاً صخب المدينة ومصحاتها وأسرارها، وشوارعها الخلفية من دون مراوغة أو مجازات.
أغنية مثل "الحالة تعبانه يا ليلى" بصوت رفيقه جوزيف صقر تختزل منهج زياد الرحباني الذي سيتطوّر باستقطاب أصوات أخرى، ربما كان صوت لطيفة بأغنية "أمّن لي بيت" نموذجاً في توسيع دائرة الأغنية المضادة لخردة السوق وميوعتها.
على المقلب الآخر، سنقع على سيرة موازية لأفكاره في مسرحياته، بدءاً من "سهرية" (1973)، مروراً بمسرحية "نزل السرور"، و"بالنسبة لبكرا شو"، وصولاً إلى "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، و"لولا فسحة الأمل" (1994).
لعل زياد الرحباني فقد فسحة الأمل، فأرخى الستارة وغادر خشبة المسرح باكراً، لكنّ صدى تلك المسرحيات بقي عالقاً في أذهان مريديه من جيل الحرب الأهلية، ليعيد اكتشافها الجيل الجديد بمنظورٍ آخر.
ستحضر موسيقى زياد الرحباني في فضاء مجاور، حيث كتب الموسيقى التصويرية لمجموعة من الأفلام المهمة، مثل "طيارة من ورق" لرندة الشهال، و"وقائع العام المقبل" لسمير ذكرى، و"نهلة" لفاروق بلوفة، كما أنجز مجموعة من البرامج الإذاعية بصوته، من موقع اليساري الغاضب والجريء ضد ممارسات السلطة، مثل "العقل زينة"، و"نص الألف خمسمية".
لكنّ الانقلاب الكبير في مسيرة زياد الرحباني يتجلّى في تعاونه مع السيدة فيروز في مغامرة تبدو للوهلة الأولى عصيّة على التحقّق. فكيف لهذا الصوت البرّي المؤلف من طراوة العشب، المبلل بالمطر، ورائحة الثلج، و"ذهب أيلول تحت الشبابيك"، أن يشتبك مع كلمات ابنها الآتية من معجم آخر لا يشبهها (كيفك أنت، وعودك رنّان، وعهدير البوسطة، على سبيل المثال).
في لحظة مجنونة وعبقرية تمكّن زياد من سحب فيروز نحو بساطه الشعبي لتغادر سجادة العائلة، وتدخل بثقة إلى الأزقة الخلفية للحياة اليومية بقاموس غرائبي يحمل بصمة الابن العبقري والمجنون. هكذا تدخل تعابير جديدة إلى أغنيات فيروز مثل الخس والزيتون من دون أن نحتجّ على هذا التحوّل. بل على العكس تماماً، كأنّ زياد وهو يختبر حنجرة فيروز في هذه المنطقة الملتبسة، يسعى إلى خلخلة التاريخ الرحباني لها بتاريخ مضاد، يشبه اللحظة الراهنة بكلّ تشظياتها، بعيداً من الرومانسية الريفية التي لم تعد موجودة إلا في بطون الكتب، ليؤكّد أنّ فيروز تصلح لكلّ الأزمنة وكـــــــــلّ الأدوار، سواء فــــــــي شجن الناي أو جنون الجاز.