سر الأسرار لدان براون: نظرة براونية جديدة للوعي البشري
"سر الأسرار" ليست مجرد مغامرة براونية ممتعة، بل دعوة لتوسيع فكرتنا حول الوعي البشري، وحول البشر، وعلاقاتهم بعضهم مع بعض ومع الكون اللانهائي.
-
سر الأسرار لدان براون: نظرة براونية جديدة للوعي البشري
أكثر كتّاب العالم احتفاء به في نوع الإثارة والتشويق الأدبي، ومؤلف الرواية الشهيرة "شيفرة دافنشي"، يعود بعد انقطاع سنوات طويلة، وبعد ثماني سنوات على روايته "الأصل" (2017). يعود دان براون بأكثر رواياته إدهاشاً حتى الآن كما يرى بعض النقاد، بتحفة محرِّضة على التفكير ستمنح القرّاء نوع التسلية الذي لا يعرف سوى براون منحه. تقع "سر الأسرار" في 688 صفحة، وقد صدرت بالإنكليزية في بدايات أيلول/سبتمبر عام 2025 عن دار "Doubleday" التابعة لدار بينغوين الشهيرة.
تتبع الرواية نمط روايات دان براون المعتاد، إذ يخلط فيها الدين، والمؤامرة، والعلم، والأحجيات والألغاز بحبكة بوليسية تتقدم بلا هوادة. يحدثنا هذه المرة عن الوعي البشري، والحياة بعد الموت، والمكائد السياسية. كذلك، يعود إلينا روبرت لانغدون، بطل روايات براون المعتاد، في سادس مغامراته. لانغدون أستاذ مبجل في علم الرموز في جامعة هارفارد، يظهر من جديد ليستكشف هذه المرة ألغاز الوعي البشري، والمشاريع الشيطانية لوكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، ومدينة براغ التي يصف براون معالمها التاريخية ومواطن جمالها بكثير من التفصيل. لكن، لا نعرف عن لانغدون في "سر الأسرار" أكثر مما عرفناه في الروايات السابقة: صاحب شهرة عالمية في اختصاصه، يستخدم كلمة السر Dolphin123 (دولفين 123) لمعظم الأشياء لأنه بارع في السباحة، قديم الطراز لدرجة أنه لا يحب الرسائل النصية وألعاب الفيديو، محتشم. ومع لانغدون، تعود إلينا أيضاً كاثرين سولومون، بطلة رواية "الرمز المفقود" (2009)، عالمة بارزة في علوم العقل، وقد أصبحت حبيبة لانغدون مؤخراً.
يفتتح الفصل الأول في براغ التي يسافر إليها لانغدون لحضور محاضرة لكاثرين. موضوع المحاضرة الوعي البشري، لأن كاثرين على وشك نشر كتاب يحتوي اكتشافات مذهلة حول طبيعة هذا الوعي، اكتشافات تهدد بنسف قرون من المعتقدات الراسخة، وتغيير فهم البشر للواقع، والوعي، والكون. يعتقد الجميع أن الكتاب سيشّكل ثورة، رغم أن أحداً لم يقرأه بعد، والنسخة الوحيدة منه موجودة في خزنة رقمية مشفرة يمتلكها الناشر؛ دار بنغوين راندوم هاوس (وهو ناشر براون ذاته). لكن سرعان ما تتحول رحلة براغ إلى فوضى. تختفي كاثرين فجأة ويُسرَق مخطوط كتابها من خوادم دار بينغوين، وتُقتل صديقتها د.بريغيتا غيسنر قبل أن تشارك كاثرين أفكارَها حول المشروع الذي تعمل عليه تحت شوارع براغ. مع توسع الحبكة لتشمل لندن ونيويورك، يجد لانغدون نفسه مستهدفاً من مؤسسة حكومية قوية، ومطارداً من شخص مخيف ينحدر من أساطير براغ القديمة يدعو نفسه بالغولم. يبحث لانغدون بيأس عن كاثرين وعن أجوبة، ليكتشف حقائق صادمة عن مشروع سري سيغير إلى الأبد طريقة تفكيرنا بالعقل البشري.
رغم عدد صفحاته الكبير، يبدو "سر الأسرار" غير مسهب أبداً، إذ تبدأ الأحداث من الصفحة الأولى ولا تهدأ قط. تبدأ الحبكة كثيفة، وتصبح أكثر كثافة مع الوقت. والحدث ينتقل بسرعة كما هي العادة في نثر براون الذي يوصف بأنه "مملكة الفصول القصيرة". تحتوي كل بضع صفحات حدثاً حابساً للأنفاس وكالعادة عند براون ثمة محرك رئيسي للأحداث، هو هذه المرة مسألة الوعي البشري. فعلى عكس الروايات السابقة التي كان فيها لانغدون يفك شيفرات أعمال وأسرار قديمة، السر هذه المرة قديم ومستقبليّ في الآن ذاته، إذ يدور حول مستقبل وعي عالمي غريب. ويتضح لنا أن كاثرين تتناول مستقبل العقل على نحو خطير، إلى درجة أن بعض المتنفذين في الحكومة الأميركية يريدون تدمير كل نسخة مادية ورقمية من مخطوطها. لاحقاً، حين يعثر لانغدون على كاثرين، يبدآن مهمة البحث عن سبب حذف مخطوطتها من الشبكة، وكيف تسبب المشروع الذي كانت غيسنر تعمل عليه في قتلها. الأجوبة تشكّل خاتمة الرواية.
فيما يخص الشخصيات، يلاحظ النقاد أن شخصيات براون غالباً ما تكون كُتّاباً ومفكرين، جذابين للغاية ويرتدون دائماً ملابس أنيقة، أصحاب كاريزما، أذكياء وقادرين على الكثير. براون، على وجه الخصوص، مهووس ببطله لانغدون، "بكرامته، بعبقريته الخالصة؛ إنه لا يحل الألغاز فحسب، بل يفعل ذلك بسرعة وسهولة، دائماً يظهر جميلاً، رياضياً، وكلما بدا أنه قد يكون مخطئاً بشأن شيء ما، يتضح أنه محق". وأحياناً، تشكّل هذه اللازمة المتكررة واحدة من عيوب روايات براون، نوع من الإغراق في المثالية. كذلك، يرى بعض الآراء أن الشخصيات الشريرة الرئيسية في "سر الأسرار" مملة بعض الشيء، عكس باقي روايات براون.
إيقاع الرواية سريع، والحبكة معقدة مليئة بالالتفافات. الفصول قصيرة، أحياناً لا تتجاوز بضع صفحات، منظور القص يتغير بسرعة أحياناً، والحبكة تتدحرج إلى الأمام. كذلك، نلاحظ استخدام براون للاستطراد والفلاش باك (استرجاع الأحداث) والإغراق في المعلومات بأسلوب ويكيبيديا (معلومات عن براغ، عن عيش كافكا فيها..إلخ)، لكنّ هذا لا يقاطع وتيرة الأحداث. كذلك، عموماً، لا تلجأ روايات براون إلى استخدام الزخارف الأدبية، وهذا جلي هنا أيضاً. بالأحرى، يلتزم بلغة مألوفة مباشرة، تثقلها أحياناً الكليشيهات والاصطلاحات.
الرواية فيها شيء من الفنتازيا، والبعض يعتبرها ظريفة ومضحكة أحياناً، شرط ألا نشغل عقلنا كثيراً بها. بمعنى آخر، يمكن مع "سر الأسرار" اتباع النصيحة التي تقال عن بعض الأفلام: "أغلق عقلك وشاهد الفيلم"، أي استمتع ولا تكن تحليلياً كثيراً. مع هذا، تبذل الرواية جهدها لتبدو واقعية ذات أساس في العالم الحقيقي، خاصة فيما يتعلق بوصف الأمكنة.
علاوة على ذلك، موهبة براون بجمع البحوث واضحة في الرواية. يرى الناقد راي بالن أن براون يقنع القراء "أن كل فكرة في الكتاب هي فكرة واقعية: الأعمال الفنية، المصنوعات اليدوية، الرموز، الوثائق، التجارب، التقنيات، النتائج العلمية والمؤسسات". وهذا يُظهر البحثَ المكثف خلف هذه الحبكة المعقدة، ما يجعل براون من الكتاب القلائل "القادرين على جمع كل هذه العناصر من الحياة الحقيقية لإنتاج حكاية تخيلية لا تصدق".
أما فيما يخص علم العقل الذي تتخصص به كاثرين وتدور حوله الرواية وسرّ أسرارها، فهو علم زائف لا وجود له في العالم الواقعي. لكن في عالم الرواية، تعرّفه كاثرين على أنه "علم الوعي البشري" أو دراسة نشاط عقل الإنسان. وهو "حقل علمي مبني على فكرة أن الوعي لا تخلقه العمليات العقلية، بل هو جانب جوهري من الكون، مشابه للمكان، والزمان أو الطاقة، وليس حتى متموضعاً داخل الجسد". فأدمغتنا، كما ترى كاثرين، "ليست كينونات إدراكية مستقلة بذاتها، بل بوابات لعقل عالمي عام. ونظريتها، ذات الأساس في الكيمياء العصبية، تتناول تجارب الخروج من الجسد، والحياة بعد الموت، والعرافة، والشخصيات المتعددة، وعلم النفس الماورائي وغيرها من الظواهر التي يعتبرها المشكّكون مجرد هراء".
"سر الأسرار" الذي تقصده رواية براون، كما ترى الناقدة لورا ميلر، هو "تأكيدُ كاثرين أن العقل البشري ليس موجوداً بالكامل في الدماغ المادي، بل بالأحرى ينهل من بركة وعي عالمية تعود ملكيتها للكون وموجودة منذ بداية الزمن". نظرية كاثرين مستمدة من سمات الإنترنت، فهي "تقارن العقل البشري بهاتف ذكي لا يستطيع طبعاً احتواء كل المعلومات المعروفة في العالم، بل يمكن أن ينهل من مصدر خارجي لا مادي يبدو بلا نهاية". وبالفعل قد تكون كاثرين محقة بشأن الوعي البشري، رغم عدم وجود ما يثبت نظرياتها. فعلى حد رأي لورا ميلر "قد نكون فعلاً كما ترى كاثرين، مرتبطين بوعي عالمي، لكن بحسب ما عرفناه عن البشر خلال عشرين سنة من النسخة الرقمية من ذلك الارتباط، فلست متأكدة أن هذا شيء جيد". "سر الأسرار" ليست مجرد مغامرة براونية ممتعة، بل دعوة لتوسيع فكرتنا حول الوعي البشري، وحول البشر، وعلاقاتهم بعضهم مع بعض ومع الكون اللانهائي.