علي شمس الدين: بهجة الأمل وسط الخراب

يترك معرض "ضوء في ظل الخراب" وراءه أسئلة وجودية عن قدرة الفن على مواجهة الدمار. من خلال لوحات علي شمس الدين، نرى كيف يمكن للفن أن يكون مرآةً للإرادة الإنسانية التي تتحدى الموت وتستولد الضوء من العتمة. 

  • من معرض
    من معرض "ضوء في ظل الخراب" لعلي شمس الدين (صفحة آرت ديستركت على فيسبوك)

في قاعة "آرت ديستركت" (Art District) بالجميزة في بيروت، حيث يلتقي الفن بالواقع الأقسى، يفتتح الفنان علي شمس الدين معرضه "ضوء في ظل الخراب" متحدياً بقلمه وريشته ظلام الحروب التي تحيط بوطنه لبنان وتمتد بوطأتها من غزة إلى سوريا والسودان وسواها من أمكنة الوجع العربي. 

يجسد شمس الدين (1955) عبر لوحاته رؤيته لإعلاء الضوء والأمل على السواد والقنوط، من خلال مقاربة فريدة تبحث عن الجمال وسط الدمار، وعن الكرامة التي ترفض الانكسار حتى في أحلك اللحظات، وتظل متمسكة بالأمل حتى لو في بصيص ضئيل.

يقدم شمس الدين في معرضه مقاربة مغايرة لتجسيد الشر والعنف، فهو لا يحاول تصوير الشر في حقيقته "القاتمة القاتلة"، بل يذهب إلى التفاصيل الإنسانية التي تظهر في عيون الناس وهم يتعرضون للألم، حيث يلتقط لحظات الخوف إلى جانب الإصرار على الاستمرار والبقاء.

هذه الرؤية تمثل فلسفة فنية عميقة تبحث عن الجوهر الإنساني الذي يبقى بعد العاصفة، وكما كتب في كتالوج المعرض: "أبحث عن اللون كفعل حياة، عن الضوء كصوت خفي ينجو من الظلام".

يخلق الفنان في لوحاته علاقة جدلية فريدة بين المأساة والفرح، حيث تظهر اللوحات من بعيد بألوان مريحة وجميلة، لكن عند الاقتراب منها تبدأ تفاصيل المأساة بالظهور. هذه الثنائية تمثل جوهر رؤيته الفنية التي لا ترفض تسيّد الفظاعة فقط، بل تبحث عن ذلك البصيص الذي لا ينطفئ.

تتحوّل اللوحات إلى حوار بصري بين الظلام والنور، حيث تندلع الألوان الزاهية كالأحمر والأزرق والأخضر من خلفيات رمادية قاتمة، كأنها إعلان صريح أن الحياة أقوى من العتمة. وتتكرر في أعماله رموز تحمل دلالات عميقة: وجوه متشظية تروي حكايات الصمود، أيادٍ ممدودة تبحث عن الخلاص، طيور محلّقة تعبّر عن الحرية المنشودة، وامرأة تنظر نحو الأفق كرمز للانتظار والأمل.

ويظهر في العديد من اللوحات ما يشبه الكوفية الفلسطينية التي تنضم إلى المشهد كشاهد على المأساة والأمل معاً، ما يعمق البعد العربي المشترك للمعرض الذي يجسد معنى النجاة من أزمنة الخراب العربي الممتدة.

ما يميز تجربة شمس الدين ارتباطها العضوي بواقعه، فهو يعيش في قريته عربصاليم في جنوب لبنان رغم تعرض المنطقة المستمر للاعتداءات الإسرائيلية، ما يمنح أعماله مصداقية عميقة. ويلاحظ المطلعون على تطور فنه كيف تتغير ألوانه وتتقاطع خطوطه وفقاً للظروف المحيطة، وكأن لوحاته سجل حيّ لتقلبات المشاعر الإنسانية أمام تقلبات الواقع.

  • من معرض
    من معرض "ضوء في ظل الخراب"(صفحة آرت ديستركت على فيسبوك)

السواد والعنف والحرب والدمار ليس فقط في الأمكنة، فهناك دمار في الوجدان والضمير والإنسان، لكن معالجة الموضوع نراها هنا من خلال ألوان مبهجة كأنها نافذة تقول إنه ليس ضرورياً أن نفقد الأمل.

تقنياً، تبدو لوحات شمس الدين المشغولة كلها بمادة الأكريليك المرنة وسريعة الجفاف، والجامعة بين بعض خصائص الزيت والماء، بالغة النظافة رغم ركام الحروب وخراب الأمكنة، وتبدو فرشاته قد بلغت من الرشد ما يجعلها قادرة على ابتداع صياغة لونية تجمع الأضداد في تناسق لافت وتناغم فريد.

يستمر معرض "ضوء في ظل الخراب" حتى تشرين الأول/أكتوبر المقبل، تاركاً وراءه أسئلة وجودية عن قدرة الفن على مواجهة الدمار. من خلال لوحات شمس الدين، نرى كيف يمكن للفن أن يكون مرآةً للإرادة الإنسانية التي تتحدى الموت وتستولد الضوء من العتمة. 

في النهاية، يذكرنا هذا المعرض بأن "الحب والأمل والضوء، آخر ما تبقى لنا في وجه هذا السواد المقيم"، كما كتب شمس الدين نفسه في كتالوج المعرض. في زمن الخراب العربي الممتد، يأتي هذا المعرض ليقول إن الفن قد يكون آخر معاقل الكرامة الإنسانية، وأقوى أدواتها للمقاومة والبقاء.

اخترنا لك