غزة ضمير العالم

غزة لم تمت، بل صارت ضمير العالم الحي. وإن كان ثمة أمل، فهو في تلك القوى الشعبية التي تثور ضد جريمة الإبادة، وتلك الجماعات الإنسانية التي ترفض أن تموت القيم.

بينما يقترب العالم من لحظة وداع العام 2025، تُكمل غزة عامها الثاني تحت نيران إبادة إسرائيلية منهجية تدعمها قوى عظمى تزود الآلة العسكرية المتوحشة بالإمدادات، وتمنع مجلس الأمن الدولي من اتخاذ قرار بإدانة الإبادة، ولو بحبر على ورق، في مشهد يكرس انهيار الضمير الإنساني، وسقوط أقنعة "التحضّر" و"التمدّن" وانكشاف الوجه البشع لقوى الاستعمار والهيمنة. 

تحت الشمس اللاهبة والحرّ الشديد، أو تحت الأمطار الغزيرة والبرد القارس، يستقبل 1.9 مليون نازح عاماً جديداً من المأساة في خيام من قماش تنهمر عليها أفتك أنواع الصواريخ، حيث يصارع الأطفال والنساء والرجال الموت جوعاً ومرضاً، في سياسة ممنهجة ومتعمدة من قبل الاحتلال للتجويع والعقاب الجماعي، تمهيداً للاقتلاع والتهجير، فيما يتباهى أرعن "البيت الأبيض" بأنه سيجعل من غزة منتجعاً عالمياً فارهاً، ويعرض مبادرة "سلام" من منظوره كـــ "سيد" للعالم أجمع (!)

هنا، حيث تُدفن الطفولة تحت أنقاض البيوت، وتتحوّل المستشفيات إلى مقابر، وتصبح ملعقة السكر حلماً بعيد المنال، ندرك أن غزة تعيد تعريف الوحشية ذاتها. وبشهادة الكثير من المنظمات العالمية ومنها منظمة العفو الدولية، تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي عملياتها "بلا أدنى اعتبار لحياة المدنيين الفلسطينيين، في ظل مجاعة من صُنع يدها". كل ذلك بـ"غطاء مكشوف" يدعى مبادرة "سلام".

كلمات من تحت الرماد

في مواجهة هذه الوحشية، تتحوّل الكلمات إلى شهود على الإبادة. تكتب الشاعرة آلاء القطراوي، التي فقدت 4 من أبنائها: "أفكر كيف يموت المرء لأنه لم يجد ملعقة سكر... غزة التي حملت جميع احتمالات الموت، حتى تلك التي لم تطرق يوماً خيالي الخصب".

ويقول الكاتب أكرم الصوراني: "حين حلّت الإبادة على غزة، تحوّلت سخريتي إلى غضب، وتحوّلت ضحكاتي إلى بكاء مكتوم بين الورق". لقد أصبحت الكلمة سلاحهم الأخير وكفنهم الرمزي، ووسيلتهم للنجاة من حصار يخنق الأرواح قبل الأجساد.

في عالم يصمت أمام المجازر، تبقى الكلمة الفلسطينية هي الصرخة الأخيرة والأصدق. لأنها تُكتب على الركام وفي الملاجئ، لا من أجل ترف الكتابة، بل لتكون شاهداً لا يُمحى، وبرهاناً للآتين غداً وذاكرة تروي الذي جرى كي لا يطمس في مجاهل النسيان.

٠٠٠ ضمير العالم الحي

لقد وصفت الكاتبة الهندية، أرونداتي روي، ما يحدث في غزة بأنه "معسكر اعتقال" نشهد فيه تدميراً شاملاً لمستشفياته وجامعاته وبيوته، مؤكدةً أنها لا تستطيع المشاركة في أي منتدى من دون أن تعلن تضامنها مع غزة.

فالإبادة في غزة لم تُصب الفلسطينيين وحدهم، بل أصابت فكرة الإنسانية في مقتل. لقد كشفت أن التحضر الغربي قشرة رقيقة تخفي تحتها همجية لا تقل عن أي همجية في التاريخ. لكنها أيضاً كشفت أن الضمير الإنساني ما زال حياً، وإن كان يعيش في قلوب الناس العاديين، لا في قصور الحكام.

غزة لم تمت، بل صارت ضمير العالم الحي. وإن كان ثمة أمل، فهو في تلك القوى الشعبية التي تثور ضد جريمة الإبادة، وتلك الجماعات الإنسانية التي ترفض أن تموت القيم، وأولئك الأفراد الشجعان الذين يصرخون في وجه الآلة العسكرية العملاقة: "كفى!".

والغريب في هذه المأساة أن تلك الجموع التي تملأ شوارع العواصم العالمية، نراها في كل أصقاع الأرض إلا في عواصم العرب ومدنهم ما عدا قلة قليلة تحفظ ما تبقى من ماء الوجه. وكأننا أمة نائمة أو غائبة عن الوعي، بينما يُذبح أبناؤنا ويُشردون أمام أعيننا.

أشرعة الضمير تواجه حصار الوحشية

لم تكن سفن "أسطول الصمود" مجرد أشرعة وخشب يخترق مياه المتوسط، بل كانت أشرعة الضمير الإنساني تحمل في قلوب ركابها أكثر من حمولتها المادية. كان الأسطول محاولةً لترجمة الصرخات الإنسانية إلى فعل ملموس، حيث انطلق متحدياً الحصار والآلة العسكرية، حاملاً في طياته رسالة واضحة: لن نترك غزة وحدها في مواجهة الموت.

لم يكن عدد السفن أو حجم المساعدات هو الأهم، بل كانت الرمزية الأعمق: ترابط الإنسانية رغم كل شيء، وإصرار البشر في مختلف أنحاء العالم على رفض الصمت أمام الجريمة. لقد تحوّلت كل سفينة إلى قصيدة مكتوبة بأمواج البحر، تقول للعالم إن الحصار لن يقتل الأمل ما دام هناك من يرفض الخنوع.

حتى عندما حوصرت هذه السفن في المياه الدولية، واصطدمت بها المدافع وقوات "الكوماندوز"، وتم اعتقال ناشطيها، كانت تثبت لكل العالم أن قوة الضمير أقوى من كل المدافع. لقد فشلت في كسر الحصار المادي، لكنها نجحت في كسر حصار الصمت والإهمال، مذكرةً العالم بأن هناك بشراً يستحقون الحياة الحرة الكريمة في غزة، وفي كل فلسطين، ويقاتلون من أجلها.

"أسطول الصمود" لم يكن مجرد رحلة إغاثة، بل كان شهادة حية على أن الإنسانية ما زالت تتنفس تحت أنقاض السياسة الاستعمارية، وأن الأمل لا يموت ما دام هناك من يبحر عكس التيار، حاملاً معه عقيدة بسيطة: لا للاستسلام.

مجدداً، علينا جميعاً أن نسأل أنفسنا كل لحظة: أين موقعنا من هذه الإنسانية الجريحة؟ هل سنكون صوتاً للغائبين تحت الركام، أم سنبقى صامتين حتى نُردم جميعاً تحت الركام ويتحقق حلم "إسرائيل الكبرى"؟

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك