في مواجهة جريمة الإبادة: النجومية مسؤولية أخلاقية

صمت بعض المشاهير العرب، فلا يمكن تفسيره إلّا في إطار ثقافة الخوف والخنوع وغياب المحاسبة الأخلاقية. لكنّ التاريخ لا يرحم، وسيذكر للأجيال القادمة من وقف مع الحقّ ومن وقف مع المصالح.

  • في مواجهة جريمة الإبادة: النجومية مسؤولية أخلاقية

في زمن الإبادة والعدوان، حيث تُسحق الكلمات تحت جنازير الدبابات وتُغتال الأحلام في وضح النهار، ينهض صوت إنساني عابر للقارات يحمل في طياته شيئاً من الأمل. إنها موجة التضامن العالمي مع فلسطين التي اجتاحت شوارع العواصم ومسارح الفنّ ووجدان الأحرار في كلّ مكان، لترسم بأضوائها بصيصاً في ظلام جرائم الاحتلال الإسرائيلي والسياسات الدولية المتوحّشة.

لقد تحوّلت منابر النجوم والمشاهير من وسائل للترفيه إلى منصات للضمير، مثبتة أنّ النجومية في عصرنا ليست امتيازاً، بل هي مسؤولية أخلاقية تزن بها الأقوال والأفعال.

صحوة الضمير العالمي

لم تعد ساحات التضامن تقتصر على التظاهرات التقليدية، بل امتدّت لتشمل مسارح الفن ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث حمل نجوم العالم مشعل القضية في واحدة من أوسع حملات التضامن في العقود الأخيرة.

شهدت مدن العالم من روما إلى لندن، ونيويورك إلى لاهور، احتجاجات حاشدة شارك فيها مئات الآلاف هاتفين بشعارات تحرير فلسطين ووقف الإبادة الجماعية، حاملين الأعلام الفلسطينية والكوفية رمز الصمود. لكنّ الأبرز كان تحوّل هذه المشاعر إلى فعل مؤثّر في عالم الفن والمشاهير.

عندما يصبح الفن سلاحاً

دور النجوم ليس مقتصراً على الغناء والتمثيل، بل يتجاوز ذلك إلى حمل رسالة إنسانية سامية لأنهم يصبحون رموزاً وأيقونات لشرائح واسعة من الناس. ولطالما كان للفنّ دور محوري في تشكيل الوعي والذاكرة الجمعية، وفي معركة الوعي هذه، امتدّ دور النجوم إلى توظيف فنّهم مباشرة في خدمة القضية.

تاريخياً، سجّل الفنانون والأدباء حضوراً واضحاً في دعم القضية الفلسطينية. فالمخرج الفرنسي، جاك لوك غودار، توجّه إلى الأردن عام 1970 لتصوير فيلم وثائقي عن المقاومة الفلسطينية، وقضى الكاتب، جان جينيه، سنتين كاملتين في المخيمات الفلسطينية في الأردن، وبعد ذلك في لبنان. ومنذ عقود والممثّلة البريطانية، فانيسا ردغريف، تعلن تضامنها ودعمها للقضية الفلسطينية.

وفي ظلّ العدوان الحالي، أعيد إحياء أغنية "تحيا فلسطين" التي قدّمها الشاعر الفلسطيني، جورج توتاري، باللغة السويدية بعد نكسة 1967، حيث قام عدد من مشاهير السوشيل ميديا بغنائها وبثّها، لتصبح أيقونة للتضامن مع القضية. كما انتشرت بشكل واسع الأغنية المغربية "لحبيبة فلسطين" التي يصدح بها الجمهور المغربي في مدرّجات الملاعب الرياضية.

وألقى النجم، ريتشارد غير، قصيدة محمود درويش "فكّر بغيرك"، وكذلك فعل نجوم آخرون. وقام الممثّل البريطاني، براين كوكس، بإلقاء قصيدة للشاعر الفلسطيني الشهيد، رفعت العرعير، الذي قتل هو وزوجته وأبناؤه في غزة. وفي موقف لافت، طردت النجمة العالمية، دوا ليبا، مدير أعمالها بسبب دعمه للإبادة، مؤكّدة تضامنها مع الشعب الفلسطيني.

نجوم العرب: بين الخوف والخنوع

في المقابل، يبرز موقف متوارٍ أو صامت لعدد كبير من المشاهير العرب فنانين وأدباء وشعراء، مما يطرح تساؤلات محرجة عن أسباب هذا الصمت.

في عالمنا العربي، تمرّ التجاوزات الأخلاقية غالباً من دون عقاب، بل ربما تمرّ كطرفة أو مجال للمفاخرة الذكورية الفجّة. والمؤسف أنّ المؤسسات الإعلامية في العالم العربي لا تخضع لمعايير أخلاقية صارمة، حيث يصبح الربح والمشاهدات هما المعيار الوحيد. هذه البيئة تخلق أرضاً خصبة للصمت والانتهازية.

يبدو أنّ الخوف على المصالح المادية والامتيازات الشخصية هو المحرّك الأساسي لصمت العديد من المشاهير العرب. ففي وقت يُنظر فيه إلى التضامن مع فلسطين على أنه "مخاطرة" لدى بعض الأنظمة، يفضّل الكثيرون الصمت على المواقف المبدئية. لكنّ هذا الصمت لم يعد مقبولاً في زمن انكشفت فيه الحقائق، وأصبح الصمت مشاركة في الجريمة.

وسائل التواصل: كسر احتكار الرواية

لعلّ الدور الأبرز لوسائل التواصل الاجتماعي (رغم سلبياتها الكثيرة) هو كسرها احتكار الرواية الإسرائيلية، مما سمح للصور والفيديوهات أن تروي القصة الحقيقية للعالم، متجاوزةً محاولات المنع والحجب والمحظورات من قبل الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي. فأثر الصورة اليوم يشبه أثر الصورة في ستينيات القرن الماضي أثناء حرب أميركا على فيتنام، عندما بدأت صور الحرب تنتشر وتحرّك الرأي العام العالمي رافضاً للظلم.

لم تعد سرديّات الفلسطينيين غائبة، بل أصبحت حاضرة في مواجهة سنوات من السرديّات الصهيونية الكاذبة. لم يعد التضامن مقتصراً على المهتمين والراغبين بالبحث، فأصبحت الشعوب تدرك تأثير البروباغندا عليها، وكذلك الحال بالنسبة للفنانين.

النجومية مسؤولية لا امتياز

حقّاً ليست النجومية مجرّد بريق عابر أو شهرة زائلة، بل منصة مؤثّرة للتعبير عن القيم الإنسانية السامية. التضامن مع غزة أصبح محكّاً حقيقياً لضمير الإنسانية، والنجوم الذين وقفوا مع الحقّ سيذكرون في التاريخ ليس كفنانين موهوبين فحسب، بل كأصحاب موقف شجاع.

أما صمت بعض المشاهير العرب، فلا يمكن تفسيره إلّا في إطار ثقافة الخوف والخنوع وغياب المحاسبة الأخلاقية. لكنّ التاريخ لا يرحم، وسيذكر للأجيال القادمة من وقف مع الحقّ ومن وقف مع المصالح.

إنّ موجة التضامن العالمي هذه، برغم كلّ الألم والدموع، تثبت أنّ غزة لم تنهزم، وأنّ صوتها سيظلّ ينبض في صدور الأحرار، صامداً كجبل لا تهزّه رياح الظلم والدمار. وفي النهاية، ستبقى النجومية الحقيقية لمن يجعلها وسيلة للدفاع عن القيم الإنسانية، لا وسيلة للهروب من المسؤولية.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك