قشور النجومية الزائفة

تطلُّ علينا نماذج غريبة من "فنانين" يستعيرون قشور القوة من مشاهد المافيا السينمائية، لا ليصنعوا فنّاً، بل ليختطفوا الأضواء بمواكب من التباهي والاستعراض.

بات تأثير النجوم والمشاهير على جماهيرهم ـــــ خاصةً الشباب ـــــ حقيقةً لا تُنكر. فهم ليسوا مجرد فنانين نستمتع بأعمالهم، بل أصبحوا نماذج يُحتذى بها، يتشرّب المعجبون قيَمَهم وسلوكياتهم، إيجاباً كانت أم سلباً. 

وللأسف، تطغى اليوم ظواهر تستدعي التأمّل: استعراضات القوة الواهية، والاستعلاء المجاني، وتبنّي مظاهر "مافيا النجومية" الزائفة. هذا المسلك، لا يعكس قوة حقيقية، بل يكشف عن فراغ أخلاقي وانزياح صارخ عن جوهر الإنسانية والفن الأصيل. فكيف تؤثّر هذه النماذج المشوّهة في وعي الجمهور، وإلى أين تقودنا ثقافة الاستعراض هذه؟

تطلُّ علينا نماذج غريبة من هؤلاء "الفنانين" الذين يستعيرون قشور القوة من مشاهد المافيا السينمائية، لا ليصنعوا فنّاً، بل ليختطفوا الأضواء بمواكب من التباهي والاستعراض. أولئك الذين لا يطؤون شارعاً إلا محاطين بحراسة مشدّدة وسيارات فارهة بزجاج معتم، يتقدّمهم حرّاس ذوو هيئة متجهمة كأنهم في حالة تأهّب دائمة. وجوههم تتوارى خلف نظارات شمسية عصية على النزع، حتى في جوف الطائرة أو تحت جناح الليل. إنها استعراضات هشّة لسلوك سلطوي يفضح نفسه: دروع لحماية هشاشة داخلية، ونظارات لحجب فراغ لا يتحمّل ضوء النقاش.

هؤلاء يتحرّكون في الفراغ ككواكب بلا جاذبية فكرية. حديثهم، إن جادلتهم، ضحل متكرّر، لا عمق فيه ولا إشراق، يكشف عن صحراء ثقافية. سلوكياتهم تنضح باستعلاءٍ مجاني، كأنما امتلاكهم لثروة طارئة وشهرة زائلة أوحى لهم بأنهم سلالة نادرة فوق مستوى البشر. 

هذا السلوك المشين يبلغ ذروته حينما تقتحم مواكبهم الصاخبة، بزجاجها المعتم وحرّاسها المتجهمين، مناسبات إنسانية حميمة كمجالس العزاء، وكأنهم في عرض عسكري، لا في بيت حزن وبساطة وتواضع إنساني (شاهدنا بعض هذه النماذج أثناء تقبّل العزاء برحيل المبدع زياد الرحباني).

مشهد يقزّز المشاعر، ويفضح جهل هؤلاء بمعاني الوجود الجوهرية: الموت، والحزن، والتضامن الإنساني الخالص الذي لا يتسع للأبهة الزائفة. هذا التعالي ليس رفعة أخلاقية أو سموّاً روحانيّاً، بل هو قناع يخفي خواء وجوديّاً، وفراغاً من أيّ قيمة إنسانية حقيقية تتجاوز المظاهر المادية والاستعراضات الفارغة.

لا نقول، هنا، ليس من حقّ هؤلاء "النجوم" الحفاظ على خصوصياتهم؟ بلى، هو حقّ مشروع. لكن ليس بهذا الشكل الأرعن الذي يستعير قشور التكبّر والاستعلاء، فتتحوّل الحماية إلى استعراض بائس للعزلة المصطنعة والتفرّد الواهم. الخصوصية الحقيقية لا تُبنى بجدران من الزجاج المعتم والحرّاس المتجهمين، بل بتوازن رصين يحترم الإنسان أياً كان. 

أما أن تغدو حجّة الخصوصية مسرحية استعراضية تافهة، فهذا هو الفراغ الباحث عن قشرة يتسترّ خلفها.

في قلب هذا المسرح المضحك المبكي، يتمّ تقديم "فنّ" استهلاكيّ سريع التلف. فنّ لا يلامس الروح ولا يحرّك الفكر، بل يرتكز على إثارة الغرائز السطحية وإرضاء الذوق المتدنّي في أسرع وقت. أغانٍ تافهة تكرّر كليشيهات الحب والثراء، ومشاهد درامية تفتقر لأبسط مقوّمات الحبكة أو العمق النفسي، كلّها تُصنع على عجل كوجبات سريعة للجماهير الجائعة إلى التسلية الرخيصة. إنه فنٌّ يخدم السوق فقط، لا الإنسان، ويُغذّي حلقة مفرغة من الجهل والاستهلاك.

تكمن المأساة الكبرى في نجاح هذه الصيغة الزائفة. فالمجتمع الاستهلاكي، بأسره، يغذّي هذا الوحش. الأضواء تتبع المواكب الاستعراضية، والكاميرات تُسلّط على النظارات الداكنة والعضلات المفتولة، بينما يغيب الفن الأصيل والثقافة الجادة عن الساحة، محجوباً بضجيج المظاهر ووهج الشهرة الفارغة. نحن أمام عملية نصبٍ كبرى: بيع وهم القوة والتميّز مقابل قبول التافه والسطحي كبديلٍ عن الجمال الحقيقي والمعنى العميق.

مواكب السيارات الفارهة والحرّاس والنظّارات الليلية ـــــ حتى في أحلك لحظات البشر وأكثرها حميمية ـــــ ليست علامات نبل أو قوة حقيقية، بل هي أعراض مرض ثقافي خطير. إنها استعارة ممسوحة للجهل والفراغ، تُخفي وراء بريقها المعدني عتمة فكرية وأخلاقية. 

في المقابل، يظل الفنان الحقيقي شامخاً كالجبال الهادئة: نجوميته لا تسرق تواضعه، وشهرته لا تنزع رداء إنسانيته أو تنال من نبله ورفعته الأخلاقية. هو الذي يقدّم فناً ينير العقول ويرتقي بالذائقة والوعي، فيزداد تواضعاً كلما علت منزلته، لأنه يدرك أنّ الفن رسالة سامية قبل أن يكون سلعة، والنجومية هبة الله التي لا تُرسَّخ بالاستعلاء بل بالإبداع والأصالة والتواصل الصادق مع آلام البشر وأفراحهم.

"النجوم" الحقيقيون لا يحتاجون إلى كلّ هذه القشور الزائفة. نجوميتهم تشعّ من عطائهم الإنساني وفنهم الأصيل الذي يضيء العقول والقلوب معاً، لا من زجاج داكن يحجب أشعة الشمس والحقيقة. فمتى نكسر هذه الدائرة الاستهلاكية، ونرفض أن نكون جمهوراً لمسارح المافيا الفنية هذه، وننحاز إلى الفنّ اللائق بإنسانيتنا لا بأسواق الاستهلاك الرخيصة؟

اخترنا لك