كذبَ المنجّمون

إنّ احترام عقول الناس يبدأ باستبعاد كلّ صوت يحاول بيع "اليقين الوهمي" في سوق الشكّ والاضطراب. فلتنهض منصات التنوير الحقيقية بتقديم الفكر المبسَّط الجذّاب، ولتُطلق حملات تثقيفية تزرع مناعة التفكير النقدي في وجه وباء الخرافة.

  • بعض المشعوذين لا يحملون في جعبتهم سوى ثقافة هشّة
    بعض المشعوذين لا يحملون في جعبتهم سوى ثقافة هشّة

لم يكن ينقص جيش المحلّلين السياسيين الذين يتحوّلون بين ليلة و"ضحاياها" إلى خبراء استراتيجيين في شؤون البلاد والعباد وما وراء الحدود، سوى المنجّمين الذين يطلّون عبر الشاشات المتنوّعة كي يدلوا بدلوهم في قضايا شائكة يعجز عن شرحها أحياناً كبار الفلاسفة والمفكّرين والمثقّفين والمتخصّصين في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع؛ ففي زمن الحروب الوجودية والأعاصير السياسية والضوضاء الإعلامية، حيث تتداعى الأحداث كأمواج هائجة، ويجتاح القلقُ النفوسَ جوعاً لأيّ بصيص يقين، تطفو على السطح ظاهرة تجافي العقل وتخدش الذائقة وتسطّح الوعي: منجّمون ينصتون لـ "همس الكواكب"، وعرّافات يقرأن طالع الأوطان في كفّ الأقدار، وكأنما السياسة ـــــ ذلك البحر المتلاطم بالأزمات والمصالح ـــــ تُختزل في البلاد المنذورة للأزمات والمِحن إلى ضرب من الرمل أو ورقة تاروت!  

تلك الوجوه - التي حوّلها سوق الإثارة الرخيصة إلى "منتجات استهلاكية" تُباع للمشاهدين كما تُباع الأوهام في أسواق النصب - باتت تطلّ بلا خجل من الاستوديوهات البرّاقة، تغلّف الحقائق بشيء من الغموض المفتعل. ترمي بكلمات مطّاطة كالشباك، تصطاد بها القلوب القلقة والعقول الحائرة العطشى لاستشراف المستقبل في ظلّ غياب الوضوح والشفافية. "سيكون هناك تغيير".. "قد تحدث أزمة"... "ربما يظهر مخرج".. "أرى دخاناً أسود فوق المنطقة الفلانية".. "هناك شيء سوف يسقط من السماء" - نبوءاتٌ جوفاء قد تصل إلى حدّ التحريض على الذعر من دون أدنى مساءلة! 

إنها لغة العموميات التي لا تخطئ لأنها لا تُلام على خطئها، ولا يحفل أحد بصدقها إلا حين تتواءم مع صدفة الواقع. فإذا تحقّقت نبوءة من بين مئات التكّهنات، انطلقت صيحات الإعجاب، وإذا غابت عن مسرح الحوادث، غابت هي الأخرى في غياهب النسيان.  

الأمر الأكثر إيلاماً أنّ بعض هؤلاء المشعوذين لا يحملون في جعبتهم سوى ثقافة هشّة، لا تتجاوز ترديد عبارات فضفاضة كالفقاقيع. ترى أحدهم يتلعثم عند سؤال بسيط، أو يخطئ في قراءة الرموز البدائية التي يدّعي فهمها، كأن يخلط بين السطور والصفحات! فكيف ننتظر من قارئ لا يحسن فكّ شيفرة كلمات مكتوبة على أوراق بين يديه، أن يفسّر تعقيدات السياسة والاقتصاد؟ كيف نثق بمن تخطئ عيناه القراءة السليمة، أن ينير لنا دروب المستقبل؟  

ويا للمفارقة المُرّة! ففي عصر الذكاء الاصطناعي والتنبؤات القائمة على بيانات ضخمة، نشهد انحداراً إلى عقلية القرون الوسطى حيث تُقاس مصائر الشعوب بكلام "البرّاجين"! خطورة هذه النماذج ليست في سذاجة المضمون وحسب، بل في جرحها الغائر للعقل الجمعي.

حين ترفع شاشات - يُفترض أن تكون منابر تنوير - صوت الدجل إلى مصاف التحليل السياسي والاقتصادي، فهي تصفع ذكاء المتلقّي صفعة قاسية. كأنها تعلن أنّ جدلية التاريخ وصيرورة المجتمعات لا تستحقان إلّا أن تُختزلا إلى ألغاز يحّلها سحرة العصر! ففي لحظات الضباب القومي والوطني، وفي غمرة القلق على المستقبل والمصير، حيث تشتدّ الحاجة إلى بصيرة الخبراء وتحليلات العقلاء، يُقدَّم الوهم كبديل عن الفهم، فتتشتت البوصلة، ويغيب التمييز بين الحقيقة والخرافة.  

المأساة الكبرى أنّ وسائل الإعلام، بدل أن تكون حصناً منيعاً ضدّ هذه العاصفة من الادعاءات والتخرّصات، تتحوّل إلى جسر يعبر عليه بائعو الأوهام إلى عقول المشاهدين بحثاً عن الإثارة الرخيصة، والمشاهدات السريعة التي تدرُّ أرباحاً على حساب المصداقية، كأنها تُبادِل المسؤولية بالتهريج، والعمق بالسطحية. كلّ دقيقة يهدرها مذيع في الاستماع إلى "نبوءة" فارغة، هي دقيقة تُسرَق من عالم جليل أو مفكّر صادق يضيء زوايا القضية بمنهج العلم والمنطق.  

أليست واجبات المهنة الإعلامية تقتضي وضع "مدوّنة شرف" تُحرّم تسويق الدجل كتحليل؟ أليس في صمت المؤسسات الرسمية على هذه المهزلة إجهازٌ على ما تبقّى من مصداقية؟ فإلى متى نرضى بأن تُقرأ تقلّبات مصائرنا في أوراق المشعوذين وكؤوس البلور؟ وأيّ منعطف مظلم أوصلنا إلى أن تمسك يد المشعوذ بميكروفون الشأن العامّ؟

إنّ احترام عقول الناس يبدأ باستبعاد كلّ صوت يحاول بيع "اليقين الوهمي" في سوق الشكّ والاضطراب. فلتنهض منصات التنوير الحقيقية بتقديم الفكر المبسَّط الجذّاب، ولتُطلق حملات تثقيفية تزرع مناعة التفكير النقدي في وجه وباء الخرافة. فلتغلق أبواب الفضاء العامّ في وجه منجم متسلّق أو عرّافة كاذبة، ولتفتح على مصاريعها للعقلاء، الذين يبنون آراءهم على أرض الحقائق لا سماء التخمين.  

إن الحياة السياسية الحقّة شجرة جذورها في أرض التاريخ، وأغصانها في سماء الطموح، لا يُروى عطشها بنبوءات، بل بفكر نقدي شجاع. وليس من كرامة لأمّة أن تستقبل أخبارها بصوت عرّاف، بينما أصوات حكمائها تُكبَت تحت ضجيج "البصّارين" وتوقّعاتهم التافهة!

اخترنا لك