من الألم إلى اللغة: كيف تتكّلم المجتمعات المجروحة؟

إنّ إسهام فينا داس الجوهري يتمثّل في دعوتها إلى التفكير في إمكانات تكوّن الذات بعد الكارثة، لا عبر تعافٍ بطولي، بل من خلال جهود شاقة وغير مرئية، لصياغة "حياة ممكنة" داخل أنقاض ما كان يُفترض أنه عالم مأهول.

  •  كتاب :
    كتاب :"الحياة والكلمات: العنف والانحدار إلى العادي" للهندية فيينا داس

يُعتبر كتاب فيينا داس "الحياة والكلمات: العنف والانحدار إلى العادي" المترجم إلى الفرنسية بعد ست عشرة سنة من صدوره باللغة الإنكليزية نقطة تحوّل في فهم العنف وتأثيره على الحياة اليومية. داس لا تنظر إلى العنف كحدث منفصل، بل كجزء عميق ومتغلغل في نسيج الحياة، حيث تتداخل الكلمات مع الألم لتعيد بناء المعنى وسط الدمار. في هذا الكتاب، اللغة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل أداة تعيش مع الناس، تحكي قصصهم وتحمل أعباء تجاربهم.

انطلق بحث داس من شهادات الناجين من مجازر تهدف إلى تقسيم الهند، حيث عاشت أجيال كاملة بين فصول العنف المدمّر. اعتمادها على المقابلات والعيش مع الناس في أماكنهم مكّنها من التقاط تفاصيل دقيقة تجعل من المعاناة تجربة يومية تتكرّر، لا مجرّد لحظة استثنائية. وهذا ما يمنح كتابها قوة استثنائية، إذ يكشف كيفية تداخل العنف مع تفاصيل الحياة، وكيف يُعاد إنتاجه عبر الذاكرة والكلام. أما في العالم العربي، فيكتسب، هذا الكتاب الذي لم يلاقِ بعد طريقه إلى الترجمة، أهمية خاصة. فالنزاعات والحروب الطائفية، وتجارب الاستعمار تركت ندوباً عميقة على النسيج الاجتماعي، لا تختلف كثيراً عمّا تصفه فينا داس وهي تتحدّث عن مجازر السيخ في الهند. 

هناك في الهند، حيث الألم يتردّد في القصص والذاكرة، يفتح كتاب داس نافذة لفهم كيف يستمر الناس في العيش، وكيف تحاول الكلمات أن تمنحهم قدرة على مواجهة ما يكاد لا يُقال. هذا الكتاب إذاً، ليس مجرّد دراسة عن العنف، بل دعوة لفهم الحياة وسط الألم، وكيف يمكن للغة أن تكون وسيلة للبقاء والرفض والمقاومة. داس تخطو خطوة أبعد من مجرّد وصف العنف، فهي تغوص في أعماق تجاربه النفسية والاجتماعية، خاصة كيف يؤثّر على النساء والفئات الهشّة. الماضي المؤلم لا يختفي، بل يعيش في الحاضر، ويُعاد تشكيله في الكلام. اللغة تصبح مكاناً يعيد بناء الهوية والروابط الاجتماعية، رغم هشاشتها وضعفها الظاهر.

تعتمد داس على مزيج من الأنثروبولوجيا والفلسفة، مستفيدة من فكر فيتجنشتاين، لتعيد التفكير في علاقة الإنسان بلغته والعالم المحيط به، ولا سيما في ظل الفقد والدمار. هذه المقاربة تجعل الكتاب أكثر من مجرّد دراسة أكاديمية، بل نصاً إنسانياً يُشعر القارئ بقوة الكلمة وسط الظلام. وبفضل المنهج الإثنوغرافي الذي يركّز على القصص الشخصية، نتمكّن من رؤية العنف ليس فقط في لحظته، بل في استمراريته، وفي قدرة الأفراد على إعادة بناء حياتهم رغم كلّ شيء. هنا، تصبح الحياة اليومية فضاءً للمقاومة، والكلمات أداة تحمي تماسك المجتمع وتمنح الأفراد قدرة على التعبير عن ألمهم، حتى وإن بدا صمتها أحياناً أكثر تعبيراً من الكلام. يقدّم كتاب فيينا داس فهماً جديداً للعلاقة بين العنف والحياة واللغة، ويُعيد الاعتبار للكلمة كفعل مقاومة وحياة. هو مرجع لا غنى عنه لكلّ من يهتم بفهم التجارب الإنسانية العميقة في مواجهة العنف، خاصة في مجتمعاتنا العربية التي تظل تشهد قصص الألم والنجاة.

في هذا الصدد يكشف الفصل الأول من الكتاب عن عمق مشروعها النظري والميداني، حيث تضعنا منذ البداية أمام سؤال مركزي: كيف يمكن فهم العنف لا بوصفه مجرّد حدث استثنائي، بل كتجربة تنغرس في نسيج الحياة اليومية، وتعيد تشكيل معنى العيش، وحدود اللغة، وشروط الإنسانية؟ في هذا الفصل التأسيسي، لا تقدّم داس سرداً تأريخياً للأحداث، بل تُدخل القارئ في حوار غني بين الأنثروبولوجيا والفلسفة، وبالأخصّ مع فكر لودفيغ فيتجنشتاين وستانلي كافل، حول ما يمكن أن تقوله اللغة في لحظات العنف، وما تعجز عنه. فهي لا تنشغل بما قيل فقط، بل بما لم يُقل، وبما لا يمكن قوله. العنف، كما تصفه، لا يُفهم فقط من خلال الشهادة أو الخطاب، بل من خلال تفكّك "قواعد اللعبة" اللغوية نفسها، ومن انهيار "معايير الفهم" في لحظات الصدمة.

ما يلفت في هذا الفصل هو أنّ داس لا تضع العنف خارج الحياة، بل تعتبره جزءاً منها، يظهر في "لحظات رعب" تعود إلى السطح في تفاصيل الحياة اليومية، وتنتشر في العلاقات الاجتماعية كأشباح للحدث المدفون. فهي لا تسعى إلى تأريخ المجازر أو توثيقها كأحداث سياسية، بل تلاحق أثرها في اللغة، في الإيماءات، في الصمت، وفيما يُظهره الجسد أو يخفيه، حين يصبح القول مستحيلاً أو مهدّداً. تصف داس العنف على أنه فشل في "نحو الحياة اليومية" وانهيار لقدرة الناس على التفاهم ضمن ما يُفترض أنه مشترك ومفهوم ضمناً. في هذا السياق، تصبح اللغة نفسها مجالاً للتشظّي: هناك انفصال بين "الصوت" و"الكلام"، حيث يُقال ما لا يُراد قوله، ويُكتم ما يحتاج إلى الإفصاح، أو يُعاد إنتاجه من خلال الإيماء أو الصمت. وهنا، يبرز دور الأنثروبولوجي لا كمُفسِّر لما يُقال، بل كمنصت لما يُظهره الناس من دون أن يُصرّحوا به.

السؤال المحوري الذي تطرحه داس هو: ماذا يعني أن "تجمع شتاتك وتعيش وسط الركام"؟ هي لا تبحث عن لحظة خلاص أو تعالٍ، بل عن كيفية اجتراح الحياة من قلب العطب، عبر ما تسمّيه بـ "الانغماس في اليومي" لا "الصعود إلى التجريد". في هذا السياق، يبدو العنف تجربة تُقاوَم لا بالبطولة، بل بالاستمرارية، بالعيش، بالتكرار، بالروتين، بالتماهي مع تفاصيل الحياة الصغيرة التي لا تبدو مقاومة لكنها تنطوي على فعل إعادة تشكيل للعالم. من خلال هذه الرؤية، يفتح الفصل الأول الباب أمام أسئلة متعدّدة عن كيفية تعامل الأفراد والجماعات مع الخطر، كيف "يدجّنون" الرعب، ويعيدون تشكيل علاقتهم بالمكان والزمان، بل وبالإنسانية ذاتها. وهو ما يجعل مقاربتها ذات أهمية قصوى في العالم العربي، حيث العنف ليس استثناءً بل بنية كامنة في الحياة اليومية للكثير من المجتمعات. 

داس لا تقدّم نموذجاً جاهزاً، بل أفقاً نظرياً وأخلاقياً لفهم كيف يعيش الناس بعد الفقد، وكيف تُبنى أشكال هشّة لكن حقيقية من "الحياة" وسط ما يبدو أنه موت مستمرّ. في المحصّلة، يضعنا هذا الفصل أمام تجربة فكرية وميدانية تتجاوز تقنيات الوصف، نحو مساءلة عميقة للغة، للذاكرة، وللوجود الإنساني ذاته حين يُكسر، ثم يُعاد ترميمه — لا عبر الكلّيات أو الحلول الكبرى، بل من خلال الحياة كما تُعاش في التفاصيل.

بداية من الفصل الثاني حتى الفصل السادس من هذا الكتاب بالغ الثراء الفلسفي والأثنوجرافي تنقلنا فيينا داس إلى قلب العنف المؤسس للدولة الهندية الحديثة، من خلال تقصّي آثار التقسيم الدموي بين الهند وباكستان عام 1947، ليس كحدث تاريخي مغلق، بل كجرح مفتوح يواصل تشكيل الذاكرة والسياسة والجسد الاجتماعي. تعتمد داس على مسارات لاجئين من البنجاب، خصوصاً النساء اللواتي خُطفن واعتُدي عليهن جنسياً خلال تلك الفترة، لتكشف عن البُنية الذكورية التي تأسّس بها مشروع الدولة القومية في الهند. فالدولة الحديثة، كما تبيّن، لم تكن حيادية أو "علمانية" بقدر ما أعادت تأكيد السيادة الذكورية، عبر امتلاك الأجساد النسائية، وحسم مصائرها فيما يشبه تقسيماً طائفياً للجسد. استعادة النساء المختطفات من "العدو" لم تكن فعلَ إنقاذ بريء، بل إعادة فرضٍ لوصاية قومية وأبوية على الجسد المُنتِج للهوية والجماعة.

لكنّ قوة هذه الفصول لا تكمُن فقط في توصيف هذه البُنى، بل في تتبّع الكيفيّات التي تعيش بها النساء الناجيات ما بعد الصدمة، في مجتمعات لا تمنحهن دائماً حقّ التعبير أو الاعتراف. "السكنى في عالم مكلوم"، كما تصفه داس، لا يعني التماهي مع الألم، بل محاولة يومية لإعادة تشكيل الذات ضمن حدود القبول والنبذ الاجتماعي. تقدّم الكاتبة بورتريهات كثيفة لنساء تفاوضن مع الأدوار المفروضة عليهن: بعضهن انصعن للمعايير الثقافية، وأخريات انخرطن في "إعادة سرد" تجاربهن ضمن أشكال من الطقوس والممارسات التي تُعيد امتلاك الحكاية والجسد معاً. تبرز هنا فكرة "عامل الزمن" كعنصر فاعل لا كمجرّد خلفيّة للحدث. فالزمن، لدى داس، ليس شيئاً يُقاس أو يُروى، بل مجال تُدمَج فيه التجربة العنيفة، ويتشكّل ضمنه نوع من العلاقة المعطوبة بالحياة: علاقة تجعل من العادي مريباً، ومن القرب حافلاً بالمسافة. إنّ من يعيشون بعد العنف لا يعودون إليه بوصفه ماضياً فحسب، بل كقالب زمني يسكن العلاقات الحميمة ويعيد ترسيم حدود الأمان واللغة والثقة. 

هذه التجارب لا تُحكى دوماً بوضوح. فكما في الفصل الأول، تواصل داس مساءلتها لما هو غير قابل للقول، وللإشارات الصامتة التي تَظهر في الإيماءات، وفي ما يُقال من دون أن يُقصَد، أو يُخفى من دون أن يُنسى. تصف المعرفة الناتجة عن هذه التجارب بـ "المعرفة المسمومة"، أو "المعرفة المصوغة من الألم"، وهي معرفة تنفلت من مفاهيم الطب النفسي أو الخطاب الرسمي عن "الصدمة"، لأنها لا تتناسب مع النموذج الفردي والمجرّد الذي يفترضه مفهوم trauma في كثير من المقاربات الغربية. هذا الاشتباك بين الجسد والذاكرة واللغة والزمن، كما تصوغه داس، يقدّم نظرة فريدة لفهم العنف في سياقاته المتداخلة: كجماعي وداخلي، كدولتي وأُسَري، كذكوري وطائفي. وهذا ما يجعل هذا العمل مرآة مهمة لسياقات عربية كثيرة لم تعش فقط عنف الدولة أو الحرب، بل تعيش عنف "العادي"، وصعوبة التعبير عنه، والعيش بعده. في عالم تتقاطع فيه السياسة بالجسد، وتختلط فيه المعاناة بالصمت، يمنحنا كتاب داس أدوات لفهم كيف "يُعاد بناء العيش" في ظل الكارثة، لا عبر النسيان، بل عبر ترويض الألم وتحويله إلى إمكان للحياة.

في الفصول الممتدة من السابع إلى العاشر، تُواصل فيينا داس حفرها العميق في التجربة الهندية مع العنف، لكن من زاوية مغايرة: لم تعد المسألة هنا متعلقة فقط بالعنف المؤسس للدولة كما في فصولها السابقة، بل بكيفية تجذّر العنف في الحياة اليومية، داخل الأحياء المهمّشة لمدينة دلهي، في أعقاب المجازر التي استهدفت طائفة السيخ سنة 1984 في إثر اغتيال إنديرا غاندي. تدفعنا داس في هذه الفصول إلى التفكير في العنف لا بوصفه لحظة استثنائية، بل كبنية زمنية قابلة للتفعيل في كلّ حين، بفعل اللغة، والمكان، والذاكرة الجمعية المشحونة.

أحد المفاهيم المركزية التي تستثمرها داس في هذا السياق هو مفهوم الرُّمور (rumor)، ليس كخطاب زائف أو كذبة جماعية، بل كفعل لغوي يُنتج الحدث في لحظة التلفّظ به. فالرُّمور، كما تصفه، هو كلام بيرلوكوتي (perlocutoire)  ـــــ أي أنّ تأثيره لا يكمن فقط في معناه، بل في أثره: هو يُحرّك، يُخيف، يُجنّد، يقتل. الرُّمور ليست فقط ناقلاً للذعر، بل هي لغة مُعدية تُحوِّل الجار إلى عدو، وتحوّل "الضحية" إلى "معتدٍ"، ما دام الخوف قد سبق الفعل وألبسه شرعية. هذا التحوّل في وظيفة اللغة هو ما تلاحظه داس كأحد شروط إمكان العنف الجماعي، حين ينصهر الموروث الثقافي والخيال السياسي في خطاب يُنتج الواقع لا يصفه.

في هذا المشهد، لا يمكن فصل العنف عن الحيّز المكاني والاجتماعي الذي يجري فيه. داس تُؤكّد عبر تحليلها الإثنوغرافي أنّ "الفعل العنيف" لا ينبثق فجأة، بل يتكثّف ضمن شبكة من الظروف المحلية: التفاوت الطبقي، الهشاشة الاقتصادية، التهميش الجغرافي، والاختلال في العلاقة مع أجهزة الدولة. العنف هنا هو استمرارية لحياة يومية مختلة، وليس قطيعة معها. هذا ما يُعبّر عنه قولها بكون العنف هو "امتداد للحياة اليومية"، لا خرقٌ لها. تسلّط داس الضوء على تناقضات الدولة بوصفها كياناً غامضاً وغير مقروء، تتجلّى أحياناً في صورة "عقلانية قانونية"، وأحياناً كقوة "سحرية" تؤدّي أدواراً تمثيلية من دون محتوى فعلي. تستعير داس من جاك دريدا مفهوم "التوقيع" لتوصيف "التكنولوجيا البيروقراطية" للدولة، حيث تتحوّل الأختام، والتقارير، والاستمارات إلى طقوس تعيد إنتاج شكل من أشكال السلطة التمثيلية، لا الفعلية. السلطة هنا لا تُمارَس بقدر ما تُمثَّل، في فضاء يعجز الأفراد عن فكّ شفراته.

أمام هذه الدولة غير المقروءة، ترصد داس كيف تتعامل النساء – من فقدن أزواجاً أو أبناءً حُرِقوا أحياء – مع فشل الطقوس في منح المعنى للموت. تساؤلات مثل "كيف نحرق طقسياً جسداً قد أُحرق حيّاً؟" أو "كيف أُعلن أمومتي وأنا أنفي وجود بناتي؟"، تعكس الانكسار الرمزي الذي تُحدثه المجازر في النظام الاجتماعي والمعرفي. ورغم ذلك، لا تسقط داس في أطروحة الضحية السلبية. على العكس، ترصد الإمكانيات الصغيرة التي تنفتح في الحياة اليومية: لحظات المقاومة، مساحات التفاوض، وممارسات رمزية تُعيد بعض السيطرة على السرد. بعض النساء يجدن، في غمار الحداد المستحيل، طرقاً لصنع الفعل السياسي – لا عبر خطاب كبير، بل من خلال التمسّك بالروتين، أو ابتكار لغة جديدة، أو خلق معنى للأمومة في عالم بلا ضمانات. 

اللافت أنّ داس تختم هذه الفصول بتركيز على الأطفال الذين نشأوا في هذا السياق المسموم، أولئك الذين يبنون لغتهم وهويّتهم ضمن "معارف غير قابلة للامتلاك" savoirs inappropriables، أي خبرات لا يمكن نقلها ولا تعليمها، بل تُكتسب عبر الألم والمعايشة المباشرة للهشاشة. بذلك، تُقدّم داس، على غرار ما فعله ميشيل نايبلز في كتابه Dans la détresse، مقاربة عميقة للهشاشة ليس كصفة فردية، بل كبنية اجتماعية وسياسية تُعيد تشكيل المعنى، والسرد، والزمن. فهي لا تكتفي بتوثيق العنف، بل تسأل عن شروطه، وسبل تحوّله إلى لغة، وشكل حياة، ووسيلة مقاومة في آن.

في ختام هذا المسار التحليلي، يتبيّن أنّ مشروع فينا داس لا يقتصر على دراسة آثار العنف بوصفه حدثاً استثنائياً أو لحظة انفجار جماعي، بل يذهب أبعد من ذلك ليجعل من اليومي الهشّ والمألوف حقلاً لفهم كيف تتسلّل الصدمات إلى تفاصيل الحياة، وكيف يُعاد بناء الذات بعد "موت العالم". إنّ القوة المفهومية لهذا العمل تكمن في ابتعاده الواعي عن التفسيرات الثنائية الجاهزة، سواء في تصوّر الدولة كفاعل مطلق العنف أو في اختزال الضحايا إلى كائنات صامتة، لصالح نظرة دقيقة ومتجذّرة في الواقع، تُنصت لما هو هامشيّ، متقطّع، ومتروك في الظلّ. 

تُقدّم فينا داس في هذا الإطار تصوّراً أخلاقياً ومهنياً للأنثروبولوجيا، يجعل من مسؤولية الباحث ألّا يكتفي بوصف الألم، بل أن يُفكّر في عواقب "تسمية" ما لا يُسمّى، وفي معنى "العيش" في ظلّ حضور دائم للموت، لا فقط كفعل ماضٍ، بل كاحتمال حاضر ومستمر. إنها تدعونا إلى التحفّظ والاحتراس من الانزلاق نحو تسييس الألم بشكل رومانسي، أو تجميل معاناة الآخرين عبر المفاهيم المجرّدة. فمن خلال تتبّعها لـ "محاولات الترميم الصامتة" في الحياة اليومية، والطقوس الصغيرة التي تؤسّس لاحتمال استمرار العيش، تُنقذ داس العنف من التشيّؤ، وتُعيده إلى موقعه الأصلي: في صلب العلاقات الاجتماعية، في الجسد، في اللغة، وفي تلك المساحات التي تبدو في ظاهرها "عادية"، لكنها تحمل توتراً بالغاً بين الحياة والموت.

إنّ إسهام فينا داس الجوهري يتمثّل في دعوتها إلى التفكير في إمكانات تكوّن الذات بعد الكارثة، لا عبر تعافٍ بطولي، بل من خلال جهود شاقة وغير مرئية، لصياغة "حياة ممكنة" داخل أنقاض ما كان يُفترض أنه عالم مأهول. وهذه هي "العودة بالكلمات إلى البيت"، التي تقترحها، لا باعتبارها عودةً إلى الطمأنينة، بل كفعل مقاومة صامتة ضد النسيان والتهميش.

الحياة في زمن الإبادة: من شوارع نيودلهي إلى أنقاض غزة 

في حرب الإبادة التي يشهدها قطاع غزة، لا يتعلّق الأمر فقط بوقائع القتل والتدمير، بل بانهيار المعنى، بانفلات الكلمات من معانيها، وتحوّلها إلى أدوات قمع أو آليات صمت. على غرار ما حلّلته فينا داس في كتابها "الحياة والكلمات" فإنّ العنف لا يقع فقط كحدث خارجي، بل ينغرس في التفاصيل اليومية، ويتسرّب إلى اللغة، إلى الجسد، إلى العلاقات الاجتماعية، ويعيد تشكيل مفهوم "الحياة العادية". تُظهر لنا غزة اليوم ما أسمته داس بـ "الانحدار إلى العادي"، أي حين تصبح المجازر حدثاً متكرراً، وحين يتوقّف الموت عن كونه صدمة، ليتحوّل إلى خلفيّة ثابتة ليوميات محاصرة. في صمت الأمهات الغزيّات اللاتي فقدن أبناءهن، في نظرات الأطفال الناجين، في رفضهن للاغتسال أو الابتعاد عن الركام، يتجسّد شكل آخر من الرفض؛ ليس مقاومة خطابية، بل تجسيد حيّ للعجز عن الحداد، عن النسيان، عن "المرور إلى شيء آخر".

كما في شهادات النساء السيخيات أو الهندوسيات اللواتي استمعت إليهن فينا داس، تمثّل أجساد النساء في غزة اليوم مواقع مقاومة وصمت في آن، حيث ينهار التمييز الساذج بين الاستسلام والتمرّد. فالجسد، حين يُنكَّل به، لا يعود فقط شاهداً على العنف، بل حاملاً له، بلغة الصمت والآلام غير المنطوقة. الكلمات تُصبح "كلمات متوحّشة"، كما تسمّيها داس، لا تكفي لتوصيف ما يحدث، بل ربما تُستخدم لتبريره، أو لتغليفه إعلامياً وسياسياً في لغة فقدت براءتها. في الحالة الفلسطينية، كما في التحليل الذي تقترحه داس حول دور الدولة الهندية في مجازر السيخ، نرى "دولة" استعمارية "إسرائيل" تجمع بين منطق القوة القانونية "الاحتلال والتصنيفات الإدارية والأمنية" ومنطق الأسطورة القومية، وتتحوّل إلى كائن مزدوج: "دولة" نظامية تُصدر أوامر، وتتحكّم بالمساعدات، وفي الوقت نفسه فاعل غوغائي يُؤجّج الشائعات، ويشرعن الإبادة باسم الدفاع عن النفس أو "حقّ الدولة في البقاء". 

لكن وسط هذا الدمار، يُطرح السؤال الذي تطرحه فينا داس: ما دور الباحث، أو المثقف، أو الشاهد؟ هل يجب أن نصمت كي لا نُتهم بتأجيج الصراع؟ هل نحافظ على الحياد حين نرى الأجساد تُمزَّق؟ أم نسعى، كما تقول، إلى "إعادة الكلمات إلى البيت"، أي إلى تخليصها من التوحّش، من خطاب الآلة الحربية، وتغليفها بإنسانية قادرة على إصغاء حقيقي إلى الشهادات، إلى العيون الصامتة، إلى الطفولة المقطّعة، لا بوصفها ضحايا عابرين، بل كفاعلين في سردية من الألم والمقاومة؟ بهذا المعنى، ليست غزة فقط مسرحاً لجريمة، بل مختبراً فظيعاً لتحليل كيف تعمل القوة، وكيف يُبنى العنف من داخل البُنى الاجتماعية والرمزية، وكيف أنّ إعادة بناء الحياة لا تتمّ فقط بإيقاف النار، بل باستعادة اللغة، وإعادة بناء الثقة في المعنى.

 

 

اخترنا لك