لبنان.. أزمةُ صخرةٍ أم أزمةُ نظام؟
انفضت الجماهير بسلام عن صخرة الروشة، لكن الجدل السياسي لا يزال محتدماً! تلك الليلة المتشحة بالحداد ستبقى مطبوعة في الأذهان بصورة السيدين الشهيدين، وبسيل من الأسئلة المعلقة: هذا المعلم السياحي الشهير على كتف المتوسط، كيف تحول – بسحر ساحر – من رمز لهوية بيروت إلى مرآة لصراعاتها؟ وكيف صار مسرحاً لنزاع سياسي جرى تضخيمه ليطغى على ما يعانيه لبنان من أزمات كبرى وتحديات مصيرية؟ من يسعى لاستدراج البلاد إلى مستنقع الفتنة؟ ومن يريد تحويل المقاومة من رمز وطني جامع إلى حالة خارجة على القانون تثير الخلافات والانقسامات؟ هل هو حقاً خلاف حول قانونية استعمال الفضاء العام؟ هل «الروشة» صخرة الإباء أم حجر عثرة في وجه بناء الدولة وتطبيق القانون؟ أم لعلها مرآة لهشاشة نظام تابع لا يعرف ما هي السيادة ومن هو العدو؟ والسؤال الأهم: أي وطن هذا الذي ينقسم حول صخرة؟ وأي دولة تخاطر – لولا حكمة الراشدين – بالقفز من صخرة الروشة؟
نص الحلقة
بيار أبي صعب: مساء الخير. انفضّت الجماهير بسلامٍ عن صخرة الروشة لكن الجدال السياسي لا يزال مُحتدماً. تلك الليلة المُتّشحة بالحِداد ستبقى في الأذهان مطبوعةً بصورة السيّدين الشهيدين وبسيلٍ من الأسئلة المُعلّقة. هذا المَعْلَم السياحي الشهير على كتف المتوسّط كيف تحوّل بسحرِ ساحرٍ من رمزٍ لهوية بيروت إلى مرآةٍ لصِراعاتها؟ كيف صار مسرحاً لنِزاع سياسي جرى تضخيمه ليطغى على كل ما يعانيه لبنان من أزمات كبرى وتحدّيات مصيريّة؟ مَن يسعى لاستدراج البلاد إلى مُسْتنقع الفِتنة? مَن يريد تحويل المقاومة من رمزٍ وطني جامِعٍ إلى حالٍ خارجة على القانون تُثير الخلافات والانقسامات؟ هل هو حقّاً خلاف حول قانونيّة استعمال الفضاء العام؟
لمُناقشة هذا الموضوع معنا الليلة في الاستوديو الدكتورة ليلا نقولا أستاذة العلاقات الدولية، والدكتور حبيب فيّاض أستاذ الفلسفة السياسية، ومعنا من لندن الكاتب والمُحلّل السياسي الأستاذ يحيى حرب، أهلاً بكم جميعاً. دكتورة ليلى مرّت أيام على الحادثة والجُرح ما زال مفتوحاً، ما هي الدروس والعِبَر التي يمكن استخلاصها من واقعة صخرة الروشة خصوصاً وأن فريقاً في الحُكم حوّلها إلى قضيةٍ وطنيةٍ وسيادية؟
ليلى نقولا: مساء الخير، أعتقد =أنه لا داعٍ لتحويل قضية بهذا الحجم إلى قضيةٍ وجوديةٍ وتُحْدِث شَرْخاً في البلد، إسرائيل تحتلّ جزءاً من أرضنا وتغتال يومياً مواطنين لبنانيين، إسرائيل تتوسّع، النقاط الخمس =صارت سبعاً، إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية تحاولان فرض واقع على لبنان عبر إنشاء منطقة عازِلة وتهجير القرى، أيضاً نحن =نعاني من أزماتٍ اقتصاديةٍ واجتماعية، اليوم هناك محاولة لتهريب الودائع أو إعفاء البنوك من مسؤوليّتها عن سرقة الودائع. أمام كل هذا المشهد اليوم نتجادَل حول موضوع إضاءة صخرة الروشة وكأن =الموضوع هو موضوع وجودي أولاً، وكأنّ هناك مَن يحاول أن يختصر بيروت بهويةٍ واحدة، بيروت تجمع كل اللبنانيين وكل الهويّات وكل الطوائف وكل الأطياف السياسية. ثالثاً حين تسمح في السابق لأطرافٍ مُعيّنة بإضاءة صخرة الروشة لم يكن هناك إجماع على ذلك.
بيار أبي صعب: لم يطرح أحد الإجماع في الأساس.
ليلى نقولا: صحيح، لم يكن =هناك إجماع في لبنان حول أمر معيّن، القول بأن إضاءة صخرة الروشة بحاجةٍ إلى إجماع فيه الكثير من المُبالغة.
بيار أبي صعب: هذا تعليقك على الحادثة، أريد أن أعرف الدروس من هذه الحادثة؟ ماذا تعلّمنا منها؟ ما الذي يبقى من هذه القصة التي تمّ تضخيمها بينما الأولويّات الاجتماعية والوطنية في مكانٍ آخر.
ليلى نقولا: تعلّمنا أنه لا يجب أن ننجرّ إلى الشعبوية، مَن طرح هذا الموضوع كان =يحضّر نفسه للانتخابات النيابية القادمة عبر تحشيد شَعْبَوي فارتدّت هذه الشَعْبَوية على مُطلقيها، خسروا المعركة، المجتمع الذي حاولوا تحريضه غرائزياً لم يتفاعل معهم. نحن نعرف أن البلد مُنقسم، هناك الثُنائي وهناك مَن طرح مواضيع أخرى في الحكومة وهذا الموضوع أحدث شَرْخاً في الحلف الواحد وليس فقط مع الطرف الآخر.
بيار أبي صعب: هذه ليست مناسبة حزبية عادية وإنما شهيد عظيم قتله العدو الإسرائيلي بثمانين طناً. دكتور حبيب أتوجّه إليك، ما الذي يدفع رئيس حكومة إلى الوقوف بهذه الحِدّية ضدّ عرضٍ ضوئي لصورة السيّدين الشهيدين والذهاب في الموضوع إلى آخره؟ ما هي =المُنطلقات والدوافِع؟
حبيب فياض: أحبّ أن أتجاوز الأشخاص والأحداث الجزئية وأن أتعاطى مع المشهد من خلال رؤيةٍ كلية. برأيي أنه منذ أن حصلت حرب ال 66 يوماً ثمّة مسلسل من الضغوط التي أُرِيد من خلالها استدراج الحزب إلى ما كان في لحظة معيّنة قد يتقاطع مع مصلحة الخارج لناحية ما يُعدّ ويُرتّب للمقاومة على المستوى الإقليمي. بمعنى آخر منذ أن حصلت الانتخابات الرئاسية ثم تشكيل الحكومة ثم حصول مجموعة من الأمور مثل القَرْض الحَسَن ومطار بيروت ومجموعة من الإجراءات العملية، أقصد بمطار بيروت الطيران الإيراني، في لحظةٍ معيّنةٍ كان لا بدّ لهذا المسلسل الذي أريد له أن يستمر على خلفيّة استضعاف المقاومة ومحاولة حَشْرها في الزاوية كان كان يجب أن يتمّ وضع حدّ له.
بيار أبي صعب: برأيك أن قضية صخرة الروشة هي في هذا السياق، إحراج المقاومة ومحاولة عَزْلها.
حبيب فياض: في لحظةٍ معيّنةٍ كنتُ أتحمّل وأصبر ليس لأنني ضعيفاً بل من قبيل الحرص على المصلحة الوطنية وعدم الذهاب في الأمور إلى مشاكل داخلية من الممكن أن تعكّرإمكانية التفرّغ والتصدّي للتعامُل مع العدوان الخارجي المُرْتَقب وتحديداً العدوان الإسرائيلي المُرْتَقب على لبنان. أنا أؤمن أنه ثمّة محاولات من أجل إجراء انزياحات استراتيجية داخلية من أجل إدخال لبنان في أمورٍ تفصيليةٍ على مقاس الزواريب اللبنانية على أمل أن يؤدّي ذلك إلى ما يمكن أن يشكّل جبهة داخلية في لحظةٍ مُعيّنةٍ ترتبط بمشروع يتخطّى الحدود اللبنانية ومرتبط بما هو وافِد من الخارج. صخرة الروشة رغم أن الحدثَ مهمّ ويعبّرعن أزمة وطن كما ورد في عنوان الحلقة، ورغم نه تمّ تضخيم الموضوع وافتعال المشاكل الهامشية على جانب الموضوع ولكن ما =يعنيني في هذه اللحظة المصيرية هو أفق المعركة مع الجانب الإسرائيلي، وأنا لن أسمح لأيّ شيء بأن يجرّني عن الاهتمام بهذه اللحظة المصيرية بوجهة الصراع مع العدو الإسرائيلي حتى لو أدّى ذلك واستدعى أن أقوم بالكثير من التنازُلات على مستوى الداخل اللبناني.
بيار أبي صعب: سأنتقل بالسؤال الذي تهرّبتَ منه بلباقةٍ وأنت محقّ لأنه من الأفضل رؤية الصورة الكاملة إلى الأستاذ يحيى حرب في لندن. رئيس الحكومة اللبنانية وضع ثقله في المعركة، أصدر توجيهات وأخذ مواقف صاخِبة وخاض معارك قانونية وخاصَم شركاء في السلطة، واستفزّ مسؤولين سياسيين وعسكريين وأمنيين كما نقول بالعاميّة اللبنانية "ليش كبّرها هَلْقَد"، ما هو من وجهة نظرك الدافع الحقيقي لهذا السلوك؟ هل هدفه حقّاً فرض احترام القانون واستعادة هيبة الدولة؟
يحيى حرب: أحيّيك أخي الكريم وأحيّي الأستاذين العزيزين في الاستوديو والتحيّة لمشاهديكم الكرام. حقيقةً ما أراه في هذه الهمروجة أو المعركة الصغيرة أنها جزء من الحرب الكبرى التي ما زالت قائمة على المقاومة وجمهورها وعلى لبنان ودوره. صخرة الروشة قضية كبرى فقط عند حكومة أصغر من مُتطلّبات المرحلة، هي محاولة لاستعادة الدور من قِبَل مسؤولين عاجزين عن الفعل الحقيقي وهذه لها أسبابها السياسية الأساسية، هي ليست بسيطة أو عابرة، تَعمُّد رئيس الحكومة تضخيم هذه القضية له دوافِع حقيقية وكبيرة. الدافِع الأول باعتقادي أن هناك نوعاً من الاحتقان الداخلي بين الأطراف واصطفافات عمودية واضحة بحيث أن الخلاف هو على كل شيء. اليوم الفريقان =المُتصارعان أو المتواجهان مختلفان على كل شيء، قضية صغيرة أو كبيرة. المسألة الثانية والأساسية في هذا الموضوع هي رمزية السيّد حسن رضوان الله تعالى عليه، هذه الرمزية في الرؤية الصهيونية من أول بيت العنكبوت إلى الوقوف على رجل ونصّ تجعل حضوره هزيمة لأعدائه ولا يكتمل الانتصار المزعوم إلا بإزاحته نهائياً من المشهد، فالموت لا يكفي إذ لا بدّ من إزالة الأثر والصورة الذهنية الرمزية، وهذا ما تولّت حكومة السيّد نواف سلام القيام به. التكليف الحقيقي لرئيس الحكومة والقوى الداعِمة له، هنا يكمُن هذا التكليف فكل ما عند هؤلاء هو إزالة السلاح والصورة الرمزية للمقاومة وتمزيق وتفتيت الحاضِنة. الإصلاح بالنسبة إليهم هو نزع السلاح، بناء الدولة نزع السلاح، الدستور، الانتخابات، الاستثمارات، الحرية، الديمقراطية، مجلس الوزراء، مجلس النواب، كلها تعني نزع السلاح، كلها لها معنى واحد، نزع سلاح المقاومة، ببساطةٍ لأن هذا هذا الأمر هو وحده ما يعني الأميركي والإسرائيلي من لبنان في هذه المرحلة. رابعاً وأخيراً السبب الحقيقي أيضاً وراء هذه الأزمة المُفْتَعلة والمُضخّمة بهذا الكمّ من العداء والكراهية والأحقاد هي محاولة ضرب الحاضِنة التي باتت درع المقاومة ورأس حَرْبتها بعد أن عجزت آلة القتل والدمار وتبديد الأرزاق ومنع أسباب الحياة التي تفنّن بها الصهاينة لقَهْر الحاضِنة الشعبية للمقاومة، كلها عجزت عن تبديد هذه الحاضِنة أو إضعافها. العقل الذي جاء به نواف سلام إلى المنصب هو إذلال هذه الحاضِنة وقتل روحها المعنوية.
بيار أبي صعب: استقبلنا رئيس ندوة العمل الوطني الأستاذ رفعت بدوي وسألناه عن محاولات عزل المقاومة التي تفضّلتَ بها أستاذ يحيى باسم السيادة، فأجاب "السيادة الوطنية واحدة لا تتجزّأ لكنها في لبنان أصبحت للأسف مفهوماً مطّاطاً، كل طرف يتعامل معه حسب مصالحه وأهوائه"، لنستمع إلى الباحث والكاتب السياسي رفعت بدوي.
رفعت بدوي: السيادة الوطنية مفهومها واحد لا يتجزّأ لكن للأسف في لبنان أصبحت السيادة الوطنية عبارة عن سيادة مطّاطة يفهمها كل شخص وفق مصالحه ومصالح حزبه ومصلحة منطقته وأمنها، وللأسف حتى اليوم لم يتوصّل المسؤولون إلى مفهومٍ واحدٍ للسيادة، أعطيك مثالاً على ذلك فخامة الرئيس إميل لحود ودولة الرئيس سليم الحص اللذان مارسا السيادة على أوسع نطاق ومن بابها الواسع، الرئيس الحود لم يتوانَ عن مواجهة الدولة الكبرى أميركا مع وزراء خارجيّتها الذين أتوا إلى لبنان من أجل فرض إرادتهم على لبنان أن يقول لا بالفم الملآن. دولة الرئيس سليم الحص أيضاً قال لا لمادلين أولبرايت، فإذاً السيادة هي أزمة مَن يحكم إذا كان يريد تطبيق السيادة بمفهومها العام. مثال آخر كمان أن المفهوم السيادي صار مُتوزّعاً عند المسؤولين اللبنانيين، مثلاً يأتي مبعوث أميركي إلى لبنان فتجد حفاوةً في استقباله من قِبَل المسؤولين اللبنانيين، جاء ليُملي قرارت على الدولة اللبنانية، يقولون إن هذا لحماية السيادة اللبنانية فيما هي في الحقيقة خرق للسيادة الوطنية. يأتي أيضاً المبعوث الأميركي لينعت اللبنانيين بالتصرّف الحيواني في قصر بعبدا ويقولون إنه جاء من أجل حماية السيادة أو من أجل قيام الدولة أو حمايتها بينما هو خرق للسيادة. الطيران الإسرائيلي يخرق يومياً الأجوء اللبنانية، البحرية الإسرائيلية تخرق المياه الإقليمية، العدو الإسرائيلي يحتلّ جنوب لبنان، هذا خرقٌ للسيادة لكن البعض لا يراه كذلك لأن منطقته غير مُهدّدة بمعنى أنهم يتعاطون مع السيادة على القطعة، فإذا لم يكن هناك تعدٍّ على منطقتي فإن السيادة محمية، ولكن مفهوم السيادة يعمّ كل الوطن ولن تكون في يومٍ من الأيام مُجزّأة. يأتي مثلاً وزير خارجية دولة صديقة للبنان ويصرّح بأنه مع لبنان فتقوم القيامة ولا تقعد بأن هذا خرق للسيادة، وإذا وازنّا مثلاً بين توماس برّاك الذي خرق السيادة على أوسع نطاق او أورتاغوس التي خرقت السيادة اللبنانية بشكلٍ فظيع عبر فرض الإرادة الأميركية، يعتبرون ذلك لحماية وبناء الدولة فيما لو صرّح وزيرالخارجية الإيراني تقوم القيامة، إذاً لا يوجد توازن في مفهوم السيادة، وحتى اللحظة لم تمارَس السيادة بحقيقتها كما نصّ عليها الدستور اللبناني. الكل في لبنان يريد ممارسة السيادة من خلال منطقته ومن خلال حزبه ومن خلال مفهومه الخاص، لكن سيادة الوطن ككل لم يطبّقها سوى فخامة الرئيسن إميل لحود والرئيس وسليم الحص الذي لم يفرّق يوماً بين الطوائف أو المناطق.
بيار أبي صعب: دكتورة ليلى أنتِ معنيّة بموضوع السيادة وكتبتِ عن ذلك، صدرت قبل بضعة أسابيع وثيقة مبادئ ومُرتكزات في استراتيجية الأمن الوطني وأعتقد أن الأستاذ حبيب من الموقّعين عليها، وقّع عليها أكاديميون وإعلاميون وناشطون تتحدّث عن فكرة أن السيادة ليست فقط احتكار القوّة في الداخل وإنما المُدافِع عن السيادة يجب أن تكون لديه القُدرة على مواجهة مخاطر الخارج وإلا فإن السيادة تكون منقوصة، حضرتك في مقالتك الأخيرة في موقع الميادين أضفتِ بُعداً جديدأً تقولين احتكار القوّة بالداخل كما قال ماكس فيبر ولكن الأمر الآخر هو أن القوانين تطوّرت والمعاهدات والتفكير السياسي بشكلٍ أن السيادة اليوم في أية دولة هي قُدرتها على تأمين رفاهية وأمن الناس وإلا فإن السيادة تكون منقوصة.
ليلى نقولا: مفهوم السيادة كما ذكرتَ ماكس فيبر وغيره أن السيادة هي حقّ وسلطة للحاكِم بأن يمارس ما يشاء داخل أراضي الدولة ولها بُعدان داخلي وخارجي، ولا يجب أن تكون هناك قوى داخلية تقوّض سلطة الدولة وتحتكر العُنف الشرعي، هذا هو المفهوم التقليدي ولكن في بداية القرن الواحد والعشرين طرأت مفاهيم =جديدة حول سلطة الدولة، هل يمكنها انتهاك حقوق الإنسان، انطلقت من فكرة هل أن السيادة رُخْصَة لانتهاك حقوق الإنسان، هكذا بدأ النقاش الأكاديمي خاصةً مع تدخّل حلف الناتو في كوسوفو في العام 1999 وبدأ الحديث عن وجوب التدخّل بسبب انتهاك حقوق الإنسان. إذا استندتَ إلى موضوع التدخّل الإنساني فأنت تفكّك القانون الدولي كله وتقتلع حجر الزاوية من القانون الدولي لأن السيادة هي أساسه. برزت المفاهيم الجديدة وأقرّتها القمّة العالمية عام 2005 بأن السيادة لم تعد فقط سلطة، السيادة هي مسؤولية للحاكِم تجاه شعبه، أولاً يُمْنَع عليه قتلهم، هذا في الإطار الخارجي ولكن في الإطار الداخلي الدولة مسؤولة عن حماية مواطنيها، وعليها تزويدهم بمتطلّباتهم الحياتية الأساسية، وهي أيضاً مسؤولة عن رفاهية وحُكم القانون وغير ذلك. الدولة يجب أن تحتكر العُنف ولكن تقع عليها مسؤولية الدفاع عن مواطنيها، احتكار العُنف يفرض عليك كدولةٍ ذات سيادة أن تطبّق حُكم القانون وأن تدافع عن المواطنين ليس فقط في مواجهة الأخطار الخارجية وإنما تجاه حيتان المال والمصارف التي سرقت أموالهم، حالياً يحاولون تمرير الأمر بلا مُساءلة، فإذاً لا يمكنك احتكار السيادة والعنف من دون أن تدافع عن الشعب انطلاقاً من مسؤوليّتك، نحن لا نتعدّى على مفهوم السيادة بل نريد السيادة كمسؤولية.
بيار أبي صعب: أستاذ حبيب هل لديك ملاحظات؟
حبيب فياض: لا يمكننا أن نجتزئ كلام المُفكّرين والفلاسفة ونطبّقه، ماكس فيبر يقول إن شرعية أية دولة تُسْتَمدّ من ثلاثة عناصر: العنصر الأول هو القيادة الكاريزميّة، العنصر الثاني هو القوانين والعنصرالثالث هو التقاليد عبر إدخال التقاليد كمُرتكزٍ أساسي في بناء شرعيات الدول. في بريطانيا توجد سيارات ولكن في بعض المراسِم والاحتفالات يتمّ استخدام الخيول، هذا له علاقة بشرعيّة الدولة والنظام لأنه مُرتبط بالتقاليد، وفي اليمن مثلاً يضعون خنجراً. نحن كشعبٍ لبناني بات من بين التقاليد الراسِخة لدينا هو موضوع العداء لإسرائيل والدفاع عن لبنان مقابل الاعتداءات الإسرائيلية لم يعد =مُجرّد مُفْرَدة سياسية يمكن التداول بها على خلفيّة تسويات وصفقات.
بيار أبي صعب: هل اللبنانييون متّفقون على تحديد السيادة؟ قرار مُحاصَرة احتفالية الروشة اليوم هل هو قرار سيادي؟
حبيب فياض: إذا أردنا أن نضع مفهوم السيادة كأمرٍ مُتنازَع عليه وبما هي محلّ اختلاف واجتهادات جانباً وأردنا أن ننطلق من المفهوم الأصلي للسيادة الذي هو محلّ إجماع الجميع. نستطيع القول بأن مصدر السيادة الأساسي هو الشعب، سادَ يسودُ سيادةً، هذه في اللغة العربية. المصدر الأساسي الذي يُعطي السيادة لدولةٍ هو الشعب، وبالتالي عندما تكون هنالك محاولات لتحقيق السيادة بالانقلاب على الإرادة الشعبية. تعقيباً على ما قالته الدكتورة ليلى لدينا مُسلّمتان، المُسلّمة الأولى أنه في الداخل الدولة تحتكر العنف، هذه موجودة في الأنظمة والدول في ظلّ ظروف طبيعية وغير استثنائية. المُسلّمة الأخرى عندما يكون هنالك اعتداء خارجي على الدولة تصبح أمام عملية تزاحُم بين مُسلّمتين، تحت عنوان احتكار العنف والسلاح تنزع السلاح في الداخل وتكشف البلد أمام العدوان الخارجي أم تنتقل أولاً إلى دَرْءِ المخاطر الخارجية ومن ثم تفكّر بالمُترتّبات. أحد الشروط الجوهرية التي تتمَأْسَس عليها السيادة هي عدم الارتباط بالخارج، لا يمكن القول بفرض السيادة في الداخل لأن هناك ضغوطاً من الخارج، هذا يُسمّى في الفلسفة تناقُضاً.
بيار أبي صعب: أستاز يحيى حرب هل قضية إحياء ذكرى الشهيدين كانت لها علاقة بالقانون؟ ماذا يقول القانون؟ هل مَنْح ترخيص باستعمال مرفق عام من مشاغِل رئيس حكومة؟ ألا تكفي بلدية بيروت أو محافظ بيروت؟
يحيى حرب: الإجابة عن هذا السؤال هي إجابة ذات شجون كما يُقال لأنها مؤلِمة أولاً لأنها تتعلّق بمناسبةٍ شعبيةٍ كبيرة تهمّ قطاعاً كبيراً من الشعب اللبناني. ثانياً لأنها تتعلّق بشخصيةٍ هي بكل المعايير والمقاييس شخصية ذات وزن =في تاريخ المنطقة، السيّد حسن نصر الله باعتراف الجميع حتى باعتراف العدو كان يشكّل صناعةً للتاريخ، كان مرحلةً بكاملها، هو صنع هذه المرحلة، خَلَق مُعادلات هذه المرحلة وأعاد شيئاً كبيراً إلى لبنان وجعله في منطقةٍ مُحدّدة. قضى في سبيل أشرف قضية، كان صادقاً، وفيّاً، أميناً، ضحّى بكل ما يملك. أنا أعتقد بكل تجرّد أن ما قدّمه السيّد للبنان وللمنطقة يفوق بمئات المرات، من هنا فإن تصرّف رئيس الحكومة بهذه الطريقة كان أمراً مُسْتَغْرباً على الصعيد الوطني وعلى صعيد صلاحياته كرئيسٍ للحكومة. لم يستطع أن ينفّذ ما يريد، وسّع دائرة الاستهداف، راح يتناول رئاسة الجمهورية والجيش والقوى الأمنية، ضخّم الأمر بشكلٍ كبيرٍ بما يؤدّي إلى فتنةٍ داخليةٍ بكل ما تعنيه الكلمة. هذا أمر مُسْتَغْرب لا يدلّ على حجم المشكلة بل على الخلفيّات التي يتصرّف على أساسها.
بيار أبي صعب: لحُسْن الحظ أن الفتنة وُئِدَت من أساسها، فاصل قصير ونعود.
أهلاً بكم مجدّداً أعزّائي المشاهدين في هذه الحلقة من "على محمل الجد"، اسمحوا لي أن أعيد الترحيب بضيوفنا الدكتورة ليلى نقولا، الدكتور حبيب فياض معنا في بيروت، والأستاذ يحيى حرب في لندن. نصل الآن إلى الجزء الثاني من حلقتنا مع فقرة "على محمل النقد". الباحِثة والكاتبة ريجينا صنيفر ترى أننا أمام خيارين لا ثالث لهما إمّا الخضوع للوصاية الخارجية وإما الدفاع عن السيادة، نشاهد معاً.
ريجينا صنيفر: أزمة صخرة الروشة هي بالطبع أكبر بكثير من أزمة استعمال مجال عام أو أزمة حرية تعبير عن الرأي. الأزمة تعبِّر عن انقسامٍ مصيري وجوهري، نحن نعيش اليوم زمن انهيار الدول القومية وتسييل السيادات وانهيار النظام العالمي الذي كانت الدول القومية ترتكز عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشهد عودة للإمبراطوريات التي ترتكز على مبدأ أن السلطة هي بِيَدِ الأقوى أو بالأحرى بِيَدِ الأعنف، والسلطة المُهيمنة بواسطة المال ورأس المال. لبنان منذ تأسيسه كان مُختبراً لكل التغييرات السياسية الكبيرة في العالم من اختبار النظام الطائفي الذي كان هدفه تفتيت المجتمعات وتفكيكها وخلق الصراعات والحروب الأهلية، ومُختبراً لمنظومة الفساد الذي هو تَكْمِلة للاحتلال والهيمنة الخارجية. فإذاً لبنان اليوم في أزمة صخرة الروشة هو أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الخضوع للوصاية الخارجية والإمبراطوريات التي تُنشئ إن كان الامبراطورية الأميركية أو محاولة خلق الإمبراطورية الأوروبية اليوم والتخلّي الكامل عن السيادة وعن مفهوم المواطَنة والحقّ في العيش الكريم أو مفهوم الحريات الفردية. أما الخيار الثاني فهو الدفاع عن السيادة بكل ما أوتيَ من قوّة في وجه مشاريع الهيمنة وتسييل سيادتنا. مياه لبنان محتلّة اليوم، أرضه محتلّة، سماؤه محتلّة، لا سلطة للبنان على فضائه الافتراضي، لبنان أمام هذا السؤال الجوهري أين سيكون هذا اللبنان في النظام العالمي الجديد؟ نحن نختار بالطبع الكرامة لأن لا فصل بين السيادة والكرامة، والمواطنون الذين تظاهروا أمام صخرة الروشة بكل عفويّة يعرفون تماماً معنى كلمة الكرامة.
بيار أبي صعب: أستاذ يحيى حرب أعود إليك، أريد منك تعقيباً على كلام الأستاذة ريجينا صنيفر، هل ترى أن الصِراع ليس فقط في لبنان بل على مستوى المنطقة هو بين مشروعين لا ثالث لهما، فإما الاستسلام للإملاءات الاستعمارية وإما المُضيّ بأشكالٍ مختلفة في مواجهتها؟
يحيى حرب: فعلاً الأمر كذلك والذي يُظْهِر هذه المسألة أخي الكريم أن المُتّفق عليه في لبنان أن الدولة ضعيفة وأن إمكانية إصلاحها مُستحيلة بسبب الهيمنة الأميركية المُطْلقة والمؤدْلَجة، بمعنى أن هناك مَن يتمسّك بهذه الهيمنة الأجنبية ويعتبرها خَشَبة خلاصه وخَشَبة نجاته من هذه الغُربة التي يعيشها في المحيط الإقليمي. المُقْلِق في هذا الأمر أن هذه النظريات التي ما زالت تَعَشْعِش في بعض العقول لدى بعض الفئات اللبنانية تتلاقى أو تتقاطع تماماً مع المشروع الصهيوني للمنطقة الذي يُعبّر عنه الصهاينة في أحيانٍ كثيرة بمسألة تحالف الأقلّيات أو بالمفهوم الجديد للشرق الأوسط الذي يريده الصهاينة، الشرق الأوسط الجديد بانت معالمه الآن كما هو واضح في سوريا وفي لبنان وفي العراق، الشرق الأوسط يعني القضاء على الدولة، القضاء على دولة سايكس بيكو التي تحدّث عنها توم برّاك. إسقاط دولة سايكس بيكو واستبدالها بهياكل دولة تتضمّن مجموعات من الفيدراليات الطائفية والمذهبية والعُرفية والقومية كيفما تيسّر، المهم هو أن تكون الدول في هذه المنطقة منزوعة السلاح وغير قادرة على إنتاج اقتصاد وغير قادرة على إنتاج ثقافة سياسية وطنية، ما يسمح بالهيمنة الإسرائيلية على المنطقة وسيادتها والتحكّم بثروات هذه المنطقة كدولةٍ مُتقدّمة تقنياً واقتصادياً. هذا هو ما يُخيف اليوم في هذه المشاريع التي لا تنتبه إلى هذه المسألة الأساسية، أننا عندما =نُفكّر بالسيادة، نُفكّر ببناء دولة، نُفكّر ببناء وحدة وطنية، علينا أن نُفكّر وفي ذِهننا المشروع الصهيوني لأننا لا نشتغل الآن في الفراغ وإنما نشتغل ضمن عملية صراع في الإقليم، هذا الصراع تحكمه مُعادلات، كيف تكون وحدتنا الوطنية في مواجهة الكيان الصهيوني؟ كيف تكون قوّتنا في مواجهة الكيان الصهيوني والمشروع الأميركي في المنطقة؟ هذا هو السؤال الذي يجب ألا يغيب عن بُناة الدولة ودُعاة الإصلاح.
بيار أبي صعب: شكراً. أستاذ حبيب هل كان من الممكن أن تحصل كل هذه الهَمْروجة حول الروشة لولا أن النظام مريض، فاسِد، مرتبط وتابع ومبنيّ على العصبيات والمصالح الشخصية؟
حبيب فياض: منذ أن تأسّس النظام في لبنان وهو يعاني مشاكل عديدة بمعنى أن المواصفات التي من المُفترض أن يتّصف بها أيّ نظام لديه الحدّ الأدنى من القُدرة على إدارة شؤون الناس والمجتمع كان النظام اللبناني يفتقد إليها، وبناءً عليه يمكننا القول إن ما حصل في صخرة الروشة هو عبارة عن محطّة من مجموعةٍ من المحطّات التي في لحظةٍ معينة نلاحظ أن المجتمع اللبناني الداخلي نتيجة عدم سويّة الدولة اللبنانية بين فترة وأخرى يشهد مجموعة من المشاكل الداخلية على خلفيّاتٍ عديدة.
بيار أبي صعب: كما قالت دكتورة ليلى نقولا لندقّ على الخَشَب، أصبح هناك نوع من المناعة لدى الناس بحيث لا يمكنك أن تستدرجهم إلى الفِتنة بسهولة.
حبيب فياض: لقد كنتُ فتى يافِعاً خلال الحرب الأهلية، وقد تعوّدتُ منذ ذلك الوقت إلى الآن أنه عندما تقوم السلطة في لبنان بعملٍ ما يندرج ضمن إطار مهام السلطة الطبيعية أستغرب. ليست لدينا مشكلة على الإطلاق مع الدستور في لبنان، حتى لو جعلتَ القرآن والإنجيل دساتير للبنان فإن المشكلة هي في الفواعِل، في لبنان لدينا ثلاث مشاكل، المشكلة الأولى هي النظام الطائفي، ثانياً عدم الالتزام بالدستور والقوانين، وثالثاً التدخّلات أو التبعية للخارج. على الرغم من الوضع المقّعد في لبنان كما قال سماحة الشيخ نعيم قاسم تعال حتى نقارب موضوع السلاح كجزءٍ مما يشتمل عليه اتفاق الطائف لن يعترض أحد، إذا كان اتفاق الطائف يتضمّن عشر نقاط إصلاحية وتختار أنت نقطة مُلتبسة وغير واضحة بنفس مقدار وضوح النقاط الأخرى فتختارها وتخلق منها إشكالية.
بيار أبي صعب: هاجسي هو النظام اللبناني من خلال مؤشّر صخرة الروشة وانقسام الناس والإعلام، دكتورة هل هذا مؤشّرلتفتّت وتهاوي ما نسمّيه بالنظام اللبناني الحالي؟
ليلى نقولا: أودّ أن أعلّق على بعض النقاط، أنا لستُ ضدّ حصر السلاح بيد الدولة وحتى البيان الوزاري نصّ على ذلك، إذا أرادت الدولة حصر السلاح عليها أن تقوم بمهامها الدفاعية، غذا كان لديها الحقّ باحتكار العنف فإن عليها مسؤولية الدفاع عن الوطن والمواطنين وألا تترك الجنوب اللبناني أو أية منطقة في لبنان مُستباحة. إذاً نحن لسنا ضدّ المبدأ، إذا اضطلعت الدولة بمسؤوليّاتها فإن حمل السلاح ليس تَرَفاً، الاستشهاد ليس تَرَفاً بل هو دفاع عن النفس والمواطنين هم الذين يتصدّون لمهمّة هي في صُلب عمل الدولة.
بيار أبي صعب: المقاومة وُلِدَت بسبب تقصير الدولة.
ليلى نقولا: من خلال اتفاق الطائف أو من دونه نحن نريد من الدولة أن تقوم بمسؤوليّاتها، ليس فقط المواطنين اللبنانيين باتوا عصيّين على الفتنة، الجيش اللبناني أيضاً عصيٌّ على الفتنة لأن هناك طرفين في لبنان لا يريدان الفتنة، الشعب غير مستعدّ بصرف النظر عما يُقال على وسائل التواصُل الاجتماعي التي تُظهر وأن الشعب يقتل بعضه وأنه لا يتمّ استقبال الشيعة، بينما في الواقع في القرى وفي بيروت والشمال تجد أن الطوائف احتضنت بعضها، هذا لا ينفي وقوع حادث هنا أو هناك ولكن وسائل التواصُل لا تعكس حقيقة المجتمع اللبناني الذي يحبّ بعضه البعض، جيوش إلكترونية كانت تعمل على بثّ النزاعات بين اللبنانيين واليوم أيضاً، فإذاً هناك طرفان ضنينان على الوطن، الإمام موسى الصدر قال إنه إذا مُسّت مصالح السلطة السياسية فإنها تُشْعِل حرباً أهلية ولا زالت. المهمّ أن الجيش اللبناني أثبت =أنه مؤسّسة جامعة ولن يفرّط بالسلم الأهلي، الجامعة اللبنانية والجيش اللبناني هما المؤسّستان اللتان جعلتا لبنان في الصورة التي نحبّها خارج القَيِد الطائفي وفي ظل المساواة، هذان الطرفانّ هما اللذان حما لبنان.
حبيب فياض: هناك استطلاع يفيد بأن ستين في المئة من اللاجئين خلال حرب ال 66 يوماً لم يدفعوا بدل إيجار المنازل لأن أصحابها رفضوا ذلك.
بيار أبي صعب: أستاذ يحيى حرب سؤال أخير بعدما نجا البلد من فتنةٍ مذهبية وفي ضوء ما قاله الأستاذ حبيب والأستاذة ليلى والحديث عن حصر السلاح بيد الدولة ومعركة إعادة بناء الدولة وفرض هيبة القانون، هل النظام الحالي قادر فعلاً على القيام بذلك أم هي مُناورة إضافية في سياق هدف واحد هو عزْل المقاومة وإضعافها وأبْلَستها كما تفضّلت؟
يحيى حرب: في الحقيقة أخي الكريم الذي يجعلنا نأمل بنوعٍ من الاستقرار والأمل في هذا البلد هو الثلاثية التي تحدّث الإخوة الأعزّاء في الاستوديو عن عنصرين من عناصرها، الشعب والجيش، في الحقيقة الشعب والجيش أثبتا ترفّعاً ووعياً أعلى من مستوى وعي الطبقة السياسية ولم ينجرّا إلى الفتنة التي كانت تريدها ولا زالت تريدها، والطرف الثالث هو المقاومة التي أثبتت في كل المفاصل وأنت تعلم أستاذ بيار وأنا أعرف ثقافتك وسِعة =اطّلاعك أنه ليست هناك مقاومة في كل الدنيا ترفّعت عن المسائل الداخلية في السلطة ولم تقترب من هذه السلطة بقَدْر ما فعلت المقاومة الإسلامية في لبنان، ضحّت بكثير من المحطّات والمفاصل، اعتُدي عليها، حاولوا جرّها إلى فتنة فترفّعت ودفعت أثماناً غالية لتحافظ على هذا الاستقرار والأمن وعلى وحدة اللبنانيين وعلى الأمل في لبنان المقبل، بل إن البعض وخاصةً من السادة التغييريين الذين شَهِدنا نماذج منهم في السنوات الماضية كانوا يلومون هذه المقاومة لأنها تحافظ على النظام وتُمسِك النظام وتمنع الدولة من السقوط باعتبار أن الدولة فاسِدة برأيه. المقاومة كانت تمنع سقوط الدولة لأن الدولة تعني وحدة اللبنانيين. للأسف الشديد هناك قوى حتى الآن لا تتعامل من خلال الإحساس بالوحدة، الوحدة الوطنية والأساتذة يعرفون أكثر مني هي أولاً وأساساً الشعور المُتبادَل بأننا معنيون ببعضنا البعض. اليوم حتى الآن هناك قوّة في لبنان وخصوصاً الحكومة ورئيس الحكومة لا يعطيان هذا المثل بأنهم فعلا يشعرون بمُعاناة أهل الجنوب ومئة ألف من الذين ما زالوا مُهجّرين، وعدداً كبيراً من الذين يعيشون حياةً صعبة في القرى التي عادوا إليها. لا يُشعرنّا أحد بأن هذه السلطة معنية فقط وتشعر فعلاً بأنها معنية بقضايانا، وهذا ما يؤكّد أننا بحاجة للكثير قبل أن يطالبوا بنزع السلاح والعودة إلى الدولة كما يتحدّث البعض، على الدولة أن تعود إلى نفسها، إلى حقيقة جوهرها بأنها دولة لكل اللبنانيين.
بيار أبي صعب: نعم أشكرك كثيراً أستاذ يحيى حرب من لندن. دكتور حبيب تعامُل السلطة الحالية مع رمز، مع قائد تاريخي كسيّد شهداء الأمّة هل كان على المستوى المطلوب في ذكرى اغتياله الأولى؟ وكيف يمكن أن تعمل مع شركائك على صياغة استراتيجية دفاعية وأنت لا تتّفق معهم على مَن هو العدو وما هي الأولويّة في لبنان؟
حبيب فياض: تعامُل السلطة مع مناسبةٍ بمستوى استشهاد السيّد حسن نصر الله لم يكن بالمستوى المطلوب وهذا له علاقة بتعقيدات داخلية لبنانية وأجندات سياسية. برأيي علينا أن نحتكم لثلاثة أمور مع الوضع الدفاعي في مواجهة التهديدات الإسرائيلية. المسألة الأولى هي الدستور، ثانياً المنطق العملي، إسرائيل إلى جوارنا وهي أثبتت أنها عبارة عن عدو مُتوحّش لا نظير له على مستوى التاريخ المعاصِر. ثالثاً احترام الإرادة الشعبية، أميّز بين أمرين، ليس فقط أن جزءاً من الشعب اللبناني يحبّ إسرائيل وإنما هناك جزء لديه مشكلة مع الطرف الآخر بكيفية مُدافعته عن لبنان مقابل إسرائيل. من واجبي أن أتعامل مع موضوع العداء لإسرائيل بمثابة هوية وطنية لبنانية تشكّل الغالبيّة القصوى من اللبنانيين، تشكّل آراءهم وقناعاتهم وإن يكن ثمّة فريق لبناني لديه مشكلة مع فريق لبناني آخر يقوم بمُحاربة إسرائيل. بناءً عليه لبنان بلد مُعادٍ لإسرائيل في الدستور وفي الإرادة الشعبية وبمنطق الأمور العملي.
بيار أبي صعب: دكتورة ليلى بالتأكيد سمعتِ عن خطّة ترامب لاستعمار غزّة وتابعتِ ولادة دولة فلسطين التي هي دولة رمزية ما ليس لديها إمكانيات وجود وإلى آخره، كيف ترين مستقبل الصراع في المنطقة وفي لبنان؟ وهل سنرى صخرات روشة أخرى في المرحلة المقبلة برأيك؟
ليلى نقولا: سأجيب على السؤال الأخيرلا وأنتقل بعدها إلى الإطار العام، الإسرائيلي يريد أن يُشْعِل فتنة في لبنان تؤدّي الى الاصطدام بين اللبنانيين، اصطدام بين الجيش والمقاومة، اصطدام بين اللبنانيين في ما بينهم، ما لا تقوم به إسرائيل يقوم به اللبنانيون أنفسهم، لذلك أعتقد أنه ستختلق لنا المشاكل دوماً من حيث لا ندري وتحصل توتّرات، منه ما هو مرتبط بإسرائيل ومنه ما هو مرتبط بالانتخابات النيابية القادمة لتعزيز الشعبوية والغرائز بين بعضنا البعض.
بيار أبي صعب: هناك كلام عن تأجيلها.
نعم ولكن ماذا لو حصلت، لذلك بدأوا بخلق التشنّجات منذ اليوم لاستثارة الغرائز الشعبوية. الأمر الثاني بالنسبة لترامب أعتقد أنه استكمال لصفقة القرن التي طرحها ترامب في ولايته الأولى، كان يحوّل الحقّ الفلسطيني بالوجود وحقّه بتقرير مصيره إلى مجرّد حقّ =اقتصادي بسيط، اليوم أخذوا هذا الحقّ الاقتصادي، هذه الدولة الفلسطينية التي كانت مُقسّمة في صفقة القرن، اليوم يريدون تحويل غزّة إلى ريفييرا، تمّ تحويل الموضوع الفلسطيني إلى موضوعٍ عقاري. أعتقد أن هذه الخطورة يجب أن يتنبّه إليها العرب جميعاً وليس الفلسطينيين فقط.
بيار أبي صعب: شكراً لكم. الكلمة الأخيرة لرئيس جمهورية لبناني راحل "إن المؤسّسات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المُتّبعة في العمل السياسي لم تعد في اعتقادي تشكّل أداةً صالحة للنهوض بلبنان في جميع الميادين. لقد تعزّز اقتناعي بأن البلاد ليست مُهيّأة بعد لتقبُّل التحوّلات، لذا قرّرتُ ألا أكون مرشّحاً لرئاسة الجمهورية"، 4 آب أغسطس 1970 الجنرال فؤاد شهاب. شكراً لضيوفي مع حفظ الألقاب: ليلى نقولا، حبيب فياض، يحيى حرب، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.