"فورين بوليسي": كيف يختلف تجديد البيت الأبيض في عهد ترامب عن عهد ترومان؟

اجتذب كلا المشروعين اهتماماً واسعاً وانتقادات من الرأي العامّ، لكنّ الفارق بين النهجين كان واضحاً.

  • في هذه الصورة بالأبيض والأسود، يظهر الرواق الجنوبي للبيت الأبيض مغطى بالسقالات ومحاط بشاحنات البناء التي تعود إلى أربعينيات القرن العشرين وعمال يحملون عربات يدوية.
    في هذه الصورة بالأبيض والأسود، يظهر الرواق الجنوبي للبيت الأبيض مغطى بالسقالات ومحاطاً بشاحنات البناء التي تعود إلى أربعينيات القرن العشرين، وكذلك عمّال يحملون عربات يدوية.

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يقارن بين تجديد البيت الأبيض في عهد الرئيس هاري ترومان وتجديده الحالي في عهد الرئيس دونالد ترامب، مع التركيز على الاختلافات الجوهرية في الدوافع، الأساليب، والممارسات.

المقال يقارن بين المسؤولية الوطنية والاحترام للتاريخ في عهد ترومان، وبين ما يُعتبر استغلالاً شخصياً أو سياسياً للمنصب في عهد ترامب.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

أثار الرئيس الأميركي دونالد ترامب غضب الكثير من الأميركيين بعد انتشار مقاطع فيديو تُظهر هدم الجناح الشرقي للبيت الأبيض. ولدى كثيرين، أصبح هذا المشهد الرمزي تجسيداً لطريقة ترامب في ممارسة الرئاسة؛ إذ حوّل هذا المنصب الأسمى إلى أداة لتحقيق مصالحه الشخصية، من دون اعتبار للتقاليد أو السوابق أو الرمزية التاريخية. فرغم ما تحمله تلك القاعات من ذكريات لاحتفالات واجتماعات تاريخية، أقدم ترامب على هدم الجناح بالكامل ليُشيّد مكانه قاعة رقص فخمة تُقام فيها حفلات للمشاهير والضيوف.

ومع تصاعد الانتقادات، ردّ ترامب مذكّراً الصحافة بأنه يواصل فقط "الإرث الرئاسي المشرّف" المتمثّل في تجديد البيت الأبيض، بوصفه مكاناً للعمل والإقامة. ومن الصحيح أنّ البيت الأبيض خضع من قبل لعمليات ترميم وتجديد، غير أنّ أبرزها كان في عهد الرئيس هاري ترومان. ورغم أنّ مشروع ترومان واجه أيضاً انتقادات وهجمات حزبية، فإنّ طبيعته كانت مختلفة تماماً. فالمقارنة بين الحالتين تكشف بوضوح أهمية ما يجري اليوم وخطورته.

شهد البيت الأبيض أعمال تجديد متكرّرة على مدى قرون. فبعد أن أحرق البريطانيون المبنى الأصلي خلال حرب عام 1812، كان لا بدّ من إعادة بنائه بالكامل تقريباً، واكتمل العمل عام 1817. وفي عام 1881، أضاف الرئيس تشيستر آرثر نوافذ من طراز "تيفاني" لإضفاء لمسة زخرفية فاخرة على المكان، بينما أذن الرئيس ثيودور روزفلت في عام 1902 بتوسعة المبنى، بما في ذلك إنشاء الجناح الغربي. كما أجرى آل روزفلت تجديدات داخلية واسعة لإضفاء طابع عصري على البيت الأبيض.

أما الجناح الشرقي الحالي فقد شُيّد عام 1942 خلال رئاسة فرانكلين روزفلت، وكان الهدف الأساسي من إنشائه إخفاء مخبأ تحت الأرض لحماية الرئيس وعائلته في حالات الطوارئ. لكن هذا الجناح تحوّل لاحقاً إلى مساحة تستخدمها السيدة الأولى إليانور روزفلت لاستقبال ضيوفها وتنظيم الفعّاليات الاجتماعية. كما أنشأ روزفلت مسبحاً داخلياً ضمن برنامجه العلاجي لمواجهة آثار شلل الأطفال.

غيّرت السيدة الأولى جاكلين كينيدي ديكور البيت الأبيض بشكل جذري، فضمّت قطعاً متحفية كلاسيكية لعرض تاريخ الولايات المتحدة، وأضفت لمسةً من الأناقة التي عُرفت باسم "طراز كينيدي". كما ركّب الرئيس جيمي كارتر ألواحاً شمسية لتسخين المياه لتوفير الطاقة، بينما حدّث الرئيس باراك أوباما أثاث المكتب البيضاوي وأضاف ملعباً لكرة السلة.

أما الفترة بين عامي 1948 و1952، خلال رئاسة ترومان، فشهدت أكبر عمليات تجديد منذ عام 1817، إذ فُكّك الجزء الداخلي من البيت الأبيض بالكامل وأُعيد بناؤه. أقام الرئيس ترومان وعائلته في بلير هاوس طوال هذه المدة. اللافت للنظر هنا هو اختلاف مبرّرات عملية التجديد وموقف ترومان عن موقف ترامب.

فقد أراد ترومان المضي قدماً في المشروع لأنّ البيت الأبيض كان في حالة سيئة للغاية. وعندما انتقل إلى المبنى عام 1945 بعد وفاة فرانكلين روزفلت، لاحظ فوراً وجود بقع كبيرة من الجصّ المتشقّق. كما لاحظ المهندس المعماري لورينزو وينسلو علامات مقلقة تُنذر بأنّ المبنى قد يكون على وشك الانهيار، وذلك أثناء عمله على شرفة الرواق الجنوبي عام 1948.

ازدادت خطورة الوضع عندما انكسرت ساق بيانو تملكه ابنة الرئيس، مارغريت، في أرضيّة غرفة الجلوس. كما كان حوض استحمام الرئيس ينهار من الأرضية، وكان بالإمكان رؤيته من غرفة الطعام أسفله.

وكتبت الكاتبة دوريس فليسون آنذاك: "لم تكن هناك خزائن تقريباً، باستثناء بعض الخزائن التي ركّبتها السيدة روزفلت، وكانت الحمامات مصدر قلق كبير، وكانت السلالم تشكّل خطراً، وكانت الخصوصية الحقيقية ترفاً نادراً". وعلى القدر نفسه من الأهمية، تطلّب التوسّع الهائل للسلطة التنفيذية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين مساحةً أكبر للموظفين.

وبينما كان الخبراء يفحصون الوضع، لم يكن هناك خلاف جوهري حول الحاجة لإجراء إصلاحات جادّة. وفي عام 1949، أنشأ الكونغرس والرئيس لجنة ثنائية الحزب لإدارة مشروع تجديد القصر الرئاسي بحكمة. ضمّت اللجنة أحد أبرز المهندسين المعماريين في البلاد، دوغلاس أور، الذي كان أيضاً رئيس المعهد الأميركي للمهندسين المعماريين، ورئيس الجمعية الأميركية للمهندسين المدنيين، ريتشارد إي. دوغرتي. كما انضمّ إليهم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب.

أجرت اللجنة مسحاً شاملاً للبيت الأبيض، وقدّمت عدة خطط للمضي قدماً. أقنع ترومان اللجنة بالتخلّي عن فكرة هدم المبنى بالكامل، ساعياً للحفاظ على الجدران التاريخية. وقال ترومان، وهو قارئ نهم للتاريخ: "لن يكون تجديد وتحديث المبنى مهمة هيّنة. قد يكون من الأوفر من الناحية المالية هدم المبنى وإعادة بنائه بالكامل، لكن القيام بذلك سيدمّر مبنى ذا أهمية تاريخية هائلة في نمو الأمة. أنا أؤيد الحفاظ على مبانينا التاريخية العريقة".

وفي تشرين الأول/أكتوبر 1949، وافق الكونغرس على الخطة وخصص نحو 5.4 ملايين دولار لها. وبعد إتمام جميع العقود، بدأ العمل في كانون الأول/ديسمبر 1949.

كان حجم المشروع ونطاقه هائلين. وبينما كان ترومان يقيم في بلير هاوس ابتداءً من تشرين الثاني/نوفمبر 1948، ويواجه توسّع الحرب الباردة وأجندة محلية طموحة، ظل منخرطاً بشدة في المشروع. ورغم احترامه للخبراء القائمين على العمل، حرص الرئيس المقتصد على ضبط التكاليف قدر الإمكان، وعلى أن يبذل العمال قصارى جهدهم للحفاظ على سلامة المبنى التاريخية.

بناءً على اقتراح ترومان، أُعيد استخدام مواد من المبنى القديم في التصميم الداخلي الجديد. فُكّت وأُعيد تركيب الثريات الشهيرة من الغرفة الزرقاء والغرفة الشرقية في الأسقف الجديدة، وأُعيدت رفوف المواقد التي تعود إلى القرن التاسع عشر. ومن أبرز الإضافات، والتي جاءت بتوصية الرئيس وتمويله الشخصي، شرفة ترومان في الطابق الثاني من الرواق الجنوبي.

صحيح أنّ الانتقادات غالباً ما تلاحق مشاريع التجديد، ولم يكن ترومان استثناءً. ومع تقدّم العمل، ظهرت أصوات معارضة من الصحافة وأعضاء الكونغرس. ومع انتشار صور صادمة للبيت الأبيض أثناء الهدم، بدأ بعض الصحافيين يطرحون تساؤلات حول التكلفة الباهظة للتجديد في وقت كان فيه العديد من الأميركيين لا يزالون يتعافون من آثار الحرب العالمية الثانية ويخوضون غمار الحرب الكورية. كما أثارت مخاوف بشأن ما إذا كان المصمّمون قد بذلوا جهداً كافياً للحفاظ على العناصر التاريخية للبيت الأبيض.

ولم يُفوّت بعض معارضي ترومان الفرصة، فاستغلوا البناء كذريعة لمهاجمته بشأن الإنفاق العامّ والمقاولين المرتبطين بالمشروع، خصوصاً مع تأخّره عن الموعد المحدّد وزيادة تكلفته عن المتوقّع.

بعد أن أقرّ الكونغرس ميزانية تكميلية في عام 1951 لتغطية تكاليف بعض الأعمال الإضافية، عادت عائلة ترومان إلى البيت الأبيض في 27 آذار/مارس 1952. وكان ترومان قد أنهى إقامة استمرت ثلاثة أسابيع في "البيت الأبيض الصغير" في كي ويست بولاية فلوريدا، حيث استراح واكتسب لوناً برونزياً.

وقال للصحافة: "أنا سعيد جداً بالعودة إلى منزل الرئيس". ونشرت لجنة التجديد تقريرها النهائي في نهاية العام، ليُختتم المشروع بتكلفة بلغت 5.7 ملايين دولار (أي أكثر من 60 مليون دولار بأسعار اليوم).

وبغضّ النظر عن الجدل الذي أحاط بمشروع البيت الأبيض في عهد ترومان، كان المبنى بحاجة ماسّة إلى هذا العمل، وقد اعتمد ترومان على إجراءات واضحة وثنائية الحزب عبر الكونغرس، ضمنت احترام تاريخ المؤسسة ووجود مبرّرات واضحة لكلّ جزء من المشروع. ورغم النقاش الحزبي حول التكاليف والمقاولين، لم يكن هناك شكّ في أنّ البيت الأبيض الجديد سيكون صرحاً للديمقراطية الأميركية — وليس لشخص ترومان.

ما شهدته الأمة في الأيام الأخيرة يختلف اختلافاً جوهرياً عما حدث في عهد ترومان. ففي هذه المرحلة، لا يوجد أيّ تفاهم أو اتفاق واضح على ضرورة هذا المشروع. فقد صرّح الرئيس في تموز/يوليو بأنه لن يهدم الجناح الشرقي، والآن تمّ هدمه. فبدلاً من خلق مساحة آمنة مادياً أو تحسين البيئة الحالية بعناية وحكمة، يبدو هذا المشروع التافه — وبخاصة هدم الجناح الشرقي — بلا مبرّر فوري.

كما أنه ليس واضحاً ما إذا كانت هناك إجراءات محدّدة لمراجعة العمل وتوجيهه مع مراعاة الماضي، ولا يبدو أنه تمّت استشارة لجنة تخطيط العاصمة الوطنية أو الصندوق الوطني للحفاظ على التراث التاريخي.

وعلاوة على ذلك، وربما ليس من المستغرب في إدارة أظهرت مراراً استعدادها لاختبار حدود الأخلاق، أن يتمّ تمويل المشروع من جهات مانحة خاصة كبرى لها مصالح سياسية مباشرة.

وأخيراً، هناك مستوى منخفض من الثقة لدى كثير من الجمهور في أنّ ترامب يتصرّف بهذه الطريقة بدافع المصلحة الوطنية وليس لمصلحته الشخصية.

ومن المفارقات أنّ ترامب أصدر أمراً تنفيذياً يدعو إلى ترميم نصب الكونفدرالية التذكاري، الذي وُضع معظم عناصره كرموز لمعارضة إعادة الإعمار والحقوق المدنية. ومع ذلك، عندما يتعلّق الأمر بالبيت الأبيض، المكان الذي اتخذ فيه الرؤساء الديمقراطيون والجمهوريون قرارات محورية غيّرت مجرى التاريخ، يبدو أنه حريص على هدم كلّ شيء.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.