العالم ليس على موعدٍ مع السلام
تتمسك واشنطن بحلم (القدر المحتوم) التاريخي، وترفض القوى الحية رفع الراية البيضاء، ولابوادر تفاهمات أو تنازلات تجنّب العالم ويلات صدام كبير قُبيل التغيير العميق.
- 
  أميركا ليست قدر العالم. 
بين نظام عالمي يحتضر وآخر يتشكّل، يعيش العالم أخطر لحظاته، وفي مقابل التطور الهائل في التكنولوجيا والاتصال، والتبدّلات الاجتماعية وفي أنماط الإنتاج، بلغ العالم من الفوضى والتفلّت والاستقواء وتآكل القيم حداً يستدعي أحداثاً عميقة أو هزّاتٍ كبرى، حرباً أو بالتفاهمات.
على أن العالم لا يحتمل حروباً كبرى، ولا أحد يريدها أو يحتاجها أو يلوّح بها سوى الولايات المتحدة التي ترصد بقلق اهتزاز مكانتها في العالم، وتعاظم قدرات الخصوم .
المشروع الإمبراطوري الأميركي، المستند إلى القوة المفرطة، واحتكار التقدّم والابتكار وفرض الحاجة الدائمة إلى السيد الأميركي، يعاني تراجع هيمنته، ويصطدم بقدرة المنافسين على تحصين الذات وامتلاك المعرفة، وبتحوّل مشروع العولمة والانفتاح والتواصل إلى سلاح مضاد، يضاعف من أحمال الإمبراطورية ومصاعبها، ما يضعها أمام استحقاق الاختيار بين التسليم بنهاية التفرّد، أو المواجهة.
الإشغال والابتزاز عنوان المرحلة
لا يبدو أن واشنطن مستعدة لتقديم تنازلات أو الرضوخ للشراكات والتعاون عوضاً عن الاستقواء والتدخل والحروب، فتمضي في مخططات تعزيز هيمنتها وتفرّدها عبر تغيير قواعد اللعبة هذه المرة، فإن كان العالم ذاهباً نحو تغيير حتمي، فلا بدّ من التحكم في مساره وفرض شكله الجديد، بما يضمن تكريس صدارة الأميركي كحاكم أوحد، يغرق العالم مجدداً في الأزمات والحروب ويمتلك وحده المرجعية والحلول؛ يفرضها بالقوة والابتزاز، لتحقيق الحلم الاستعماري بالتحوّل من قطب إلى حكم ومرجع أوحد فوق الجميع وفوق كل الأقطاب؛ ومخططات الاستهداف والابتزاز تشمل الجميع.
في منطقتنا حيث يُحكم المشروع الأميركي على الجغرافيا ويستكمل التقسيم ونهب الثروات، وتنشيط مشاريع الفتنة والتفتيت، يستحضر سلاح الابتزاز والخداع وخلق الأزمات ثم مقايضة الحلول الآنية الملحّة بتنازلات ومهمات تخدم رؤيته الاستعمارية، فحقق كثيراً من المكاسب وانتزع التنازلات على أكثر من جبهة، واستثمر في تحييد المنافسين الدوليين لتكريس نفسه مرجعية تفرض المخارج الملتبسة كعناوين سلام كبرى، سيما بوجود شخصية مربكة كالرئيس ترامب، وعلى وقع تداعيات العاصفة التي تضرب المنطقة على مدار العامين الفائتين، لتصبح المقاربات أقل طموحاً، إذ باتت النجاة بحد ذاتها غايةً صعبة المنال تُدفع لإدراكها الأثمان والتنازلات. على أن المخطط لا يكتمل قبل تحقيق أهداف ثلاثة؛ الإجهاز على إيران، وقطع الطريق على الصيني الصاعد، وضمان التفوق المطلق لكيان الاحتلال؛ الوكيل والقاعدة العسكرية الاستعمارية، والتي آن لها أن تتضخم، وتتكفل بإدارة المصالح والمطامع الأميركية في المنطقة.
في العمق ليس أدلّ على مخططات الإشغال والابتزاز من قمة شرم الشيخ الأخيرة، منصة ترامب لإعلان مشروعه الملتبس لوقف حرب غزة وإطلاق ما سمّاه السلام في الشرق الأوسط. اللا خطة هذه انتزعت استسلام الجميع لقرار واشنطن أن تحقق بالسياسة ما عجزت عنه آلة الموت والدمار التي أمدّت بها كيان الاحتلال على مدار عامين. ظهر ترامب كالمرجع المنقذ، لوّح بأطواق نجاةٍ لأزمات صنعها، في مقابل التسليم بقرار الإجهاز على المقاومة وعلى القضية، وباستكمال مخطط إعادة ترتيب الأوزان والأدوار في المنطقة.
ينطبق هذا على الأطراف المعنية جميعها، من تركيا الناتو التي حوّلت مخططات التقسيم وصراع النفوذ مع الكيان حلمها في سوريا إلى تحدٍ يستدعي تعديل الأولويات ولو على حساب "حماس القسّام"، أو التوازن الدقيق في العلاقة مع الجارة اللدود إيران، سيما مع الوعود بدورٍ يداعب الحلم العثماني، وبحلول للواقع الاقتصادي المتأزم عبر مشاريع نقل الغاز إلى أوروبا وممر "زنغزور". إلى قطر المطالبة بمهمات شبيهة، وبمزيدٍ من الارتهان ما بعد الاتفاقية الدفاعية الجديدة، وعلى وقع العدوان الصهيوني الخطير عليها أيلول الماضي، والذي زلزل المنطقة، ودوّت أصداؤه في عواصم الحلفاء قبل الخصوم، سيما السعودية التي دفعت نحو اتفاقية الدفاع مع باكستان لاستكمال ابتزازهما وابتزاز آخرين عبرهما، وكذا مصر والأردن حيث إغراءات وقف مخططات التهجير والضم و(إسرائيل الكبرى)، ووعود البحبوحة وتبريد الجوارات الملتهبة، من السويداء على الحدود الشمالية للأردن، إلى ليبيا والسودان وأثيوبيا في الطوق المصري، وهي السيوف التي شحذها الأميركي قبل أن يَعِد بإغمادها في بازار المقايضات والابتزاز.
وليس العراق ولبنان وأفغانستان بمنأى، فلكل طرفٍ أزماته، والجميع مستسلم للقدر الأميركي، وساعٍ وراء وهم إنقاذ الذات بكل الأثمان، ولا دلائل على استيعاب الدروس وتوحيد الجهود للمعركة الحتمية مع التقسيم والتدمير القادم، أو استدراك ما بُعثر من عوامل السيادة والاكتفاء والاعتماد على الذات، أو تحصين الدواخل وإطلاق المشاريع وإعلاء المهمات. ولا أمل اليوم إلا بالشعوب ومثقفيها وقواها الحية.
لا تختلف العناوين في المعركة مع القوى الكبرى، من أميركا اللاتينية إلى روسيا التي دُفعت إلى خوض أم المعارك على أوكرانيا؛ الجزء الحيوي الفارق في (قلب العالم)، كما يسميها "ماكيندر"، إلى حليف الأمس؛ أوروبا، وصولاً إلى الصين، العقبة الكأداء، الصاعدة بلا توقّف، والمنكبّة على تطوير الذات وتعزيز الحضور والمكاسب.
يربك المنافس الصيني حسابات واشنطن؛ يتجنّب الانخراط في الأزمات المشتعلة، ويتربص اللحظة الحاسمة لفرض المعادلات، سيما وقد ضمن أو يكاد حصة الشريك في النفوذ إذا ما جَنحت واشنطن للتفاهم فالتقاسم عوضاً عن الصدام الكبير أو دوام الاستعصاء ،الآخذ في قضم ما تيسّر من التفرّد.
يدرك الأميركي حتمية اللحظة الصينية المنتظرة، ويعي مخاطرها، فقد اختبر اقتناص لحظة فارقة قبل نحو ثمانية عقود، وكان أنْ توّجته قطباً عالمياً في العالم الجديد آنذاك، ما يجعله مضطراً إلى تغيير الوقائع واتخاذ خطوة عاجلة فارقة؛ بالعدوانات والاغتيالات أو بمزيد من التفاهمات المجحفة لاستكمال التطويق والإرباك، فلا بد من تشتيت الانتباه قبل الضربة الأخيرة، تلك التي تحاكي النقلة الحاسمة للاعب الضامن (الداما)، حيث توزّع الأحجار على الرقعة بعناية، وتُنصب الفخاخ ويجري تشتيت الخصم استعداداً للنقلة الأخيرة الكفيلة بالتهام أحجاره الواحد تلو الآخر، من دون فرصةٍ للدفاع أو المناورة؛ وبخلاف الشطرنج لا بدّ من منتصر في (الداما)، ولا يكفي الحفاظ على حجرٍ واحد لاستئناف المعركة أو النجاة بتعادل، فليس فيها قلاعٌ وبيادق ولا شاه.
في "أوراسيا"، حيث أوكرانيا عنوان المشروع الممتد منذ 2014 لتهديد روسيا وكبح نفوذها المتصاعد، سيما ما بعد حرب جورجيا 2008 التي أعلنت مهمة استعادة المكانة، لم يكن أمام موسكو غير المواجهة.
مثّلت أوكرانيا ولا تزال معركة مصير بالنسبة إلى روسيا ومستقبل أوروبا، يقول بريجنسكي؛ الاستراتيجي ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق في كتابه القيّم (رقعة الشطرنج العظمى 1997): " من دون أوكرانيا تكفّ روسيا عن أن تكون إمبراطوريةً أوراسية، … إذا ما استعادت موسكو سيطرتها على أوكرانيا، …؛ فإن روسيا ستستعيد تلقائياً الشيء الذي بواسطته تصبح دولةً إمبراطوريةً قوية ..".
أوجد الأميركي بإشعاله الأزمة الأوكرانية، فرص ابتزاز الجميع وفتح باب المقايضات، وحقق إشغال الطرفين وتشتيتهما؛ أجهز على الكتلة الأوروبية المنافسة وماضٍ في ابتزازها، وعلى المقلب الآخر، نجح في توجيه ضربات وازنة إلى روسيا، فاقتنص سوريا، الحليف التاريخي، وغيّر سياقات الصراع مع إيران، آخر قلاع المنطقة في مواجهة الهيمنة، ويسعى لتحييد موسكو عن معركة الإجهاز عليها؛ مبشّراً بوعود المقايضة في شرق أوكرانيا وطيّ صفحة الحرب، وباستعادة المصالح على الساحل السوري. ويحضرنا التساؤل المحق عن غياب الدعم العسكري الروسي، فضلاً عن الصيني خلال اشتباك الأيام الاثني عشر بين إيران والكيان في حزيران الفائت، رغم الحاجة على مستوى الدفاع الجوي بالذات، وعن مفاعيل وسقف الاتفاقية الاستراتيجية الإيرانية- الروسية الأخيرة؛ هل هي إشارات التبدّل القسري في الأولويات، أم أن طهران اختارت، وتكون حسناً فعلت، أن تخوض معركتها بلا ظهير دولي قد يتحوّل على طاولات التفاوض إلى وصيٍ ربما تدفعه إكراهاته نحو مقاربات لا قِبل لطهران بها؟
أياً تكن الإجابات عن أسئلة التفاعل الإيراني- الروسي فالثابت أن رأس (إيران الثورة) في مقدمة الأهداف الأميركية، وأن تكلفة المواجهة على روسيا أقل بكثير من تكاليف التفاهمات والمقايضات، خصوصاً أن المخططات تستهدف عرى المثلث المهم؛ الروسي- الإيراني- الصيني.
أميركا ليست قدر العالم
لم ينجح التهديد والعدوانية الأميركية المتصاعدة في فرض الرضوخ للابتزاز على الجميع، ففي أميركا اللاتينية تصمد فنزويلا وكولومبيا في وجه التهديد العلني بالحرب، وتستعدان للمواجهة دفاعاً عن الوطن والمشروع، وتناور دول ككندا والدنمارك وبنما، فيما تتصاعد مشاهد التسخين والاستعداد على جبهات أخرى، فتجري روسيا مناورات نووية وتختبر صواريخ، وتلمّح إيران بتغيير العقيدة النووية وتعالج الاختراقات وتعزّز القدرات الدفاعية والهجومية، ويمثّل استعراض الصين ترسانتها الهائلة عنوان مواجهة، سيما وقد اختبرت بعضها بنجاح في الاشتباك الهندي- الباكستاني الأخير.
لا حلول وسط تلوح في الأفق إذاً، تتمسك واشنطن بحلم (القدر المحتوم) التاريخي، وترفض القوى الحية رفع الراية البيضاء، ولا بوادر تفاهمات أو تنازلات تجنّب العالم ويلات صدام كبير قُبيل التغيير العميق، فلا الاستقواء والتهديد يكفي، ولا التصعيد المنتظر ضمن حدود الاغتيالات أو الاشتباكات المحدودة سيفي بالغرض.
العالم ببساطة أقرب إلى التصعيد ومزيدٍ من الحروب الطاحنة منه إلى السلام.
 
                                 
                                             
                                             
                         
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                    