الفيلسوف جوليان بيندا يفكك صفات المثقف الخائن
يدرس الفيلسوف والروائي الفرنسي جوليان بيندا في كتابه "خيانة المثقفين" قيام المثقفين بتبني المشاعر السياسية وكيفية تبلور صورة المثقف المعاصر.
-
كتاب "خيانة المثقفين" لجوليان بيندا
قبل زمن طويل، طالب أفلاطون بأن يقيَّد الفيلسوف بالسلاسل حتى يضطر إلى اللجوء إلى الدولة. ولكون شغله الشاغل هو البحث عن الأشياء الخالدة، فإن لجوءه يمنحه منزلة أكبر، لأنه بذلك يكون منسجماً مع الدولة.
بعده بأعوام طويلة، انتقد مايكل أنجلو الرسامَ الإيطالي ليوناردو دافنشي وعابَ عليه لامبالاته تجاه محنة فلورنسا، فيما أرجع الأخير حيادهُ إلى انغماسه الكلي في دراسة الجمال. من خلال هذين النسقين المتناقضين، يدرس الفيلسوف والروائي الفرنسي جوليان بيندا (1867-1956) في كتابه خيانة المثقفين (دار الروافد وابن النديم 2021) قيام المثقفين بتبني المشاعر السياسية وكيفية تبلور صورة المثقف المعاصر ومرورها بأطوار عديدة حتى صار المثقفون يرتبطون بمشاعر الدنيويين وابتعدوا بمصالحهم عن الحياة الواقعية، فيما تمتعوا بالقدرة الفائقة على اختراق الحاجز الأخلاقي وتسخير قدراتهم الفكرية لغاية التلاعب بالحقيقة.
وقد عارض المثقفون في الماضي واقعية "الدنيويين". أما "المثقفون" اليوم، فهم يقومون بخدمتها. وهنا، يقدم بيندا دراسة تفكك السمات العامة لكلا الفئتين، وهذا لا يعني أن ثمة تناقضاً في المبادئ إزاء أديب ما أو فيلسوف سابق، وهو أيضاً لا ينقص الإعجاب بفكرة، بمعنى أنه لا يتخلى عن إيمانه بالفيلسوف الألماني نيتشه -كونه فيلسوفاً أخلاقياً للحروب- فقط لأنه نادى في نهاية كتابه "زرادشت" بالعصبية التي تتفوق على الأناجيل. ولا يتوقف إعجابه بالفيلسوف الفرنسي ماليبرانش (1638-1715) لأنه حث على العبودية في كتابه "الأخلاق"، إنما غرضه هو دراسة التأثير الذي تركه المثقفون في العالم، وليس ما كان يحيك في أنفسهم.
ويكشف بيندا عن التحول الذي طرأ على المشاعر السياسية بين الماضي والحاضر، حيث طغت على الفرد وغلبت على المشاعر الأخرى، في حين أن "العقل المعاصر" ينادي بأعلى صوته "السياسة أولاً". لذا، فإن المشاعر السياسية اليوم تكتسب قوة أكبر وتتحد مع باقي المشاعر الأخرى، ولا تعزل نفسها عنها، بل هي مشاعر تعددية وتتسم بالثبات والقوة.
إقرأ أيضاً: فرانز فانون.. حفيد "العبيد "الذي صار أيقونة ثورية
وهنا، يصنف بيندا المثقفين بكونهم أولئك الذين لا يسعون وراء المصالح، بل يجدون سعادتهم في ممارسة فن أو مزاولة علم، إلا أن انقسامهم بين "مثقفين لامبالين" ضربوا المثل في التعلق بمساعي العقل، وما بين مثقفين من فئة "الفلاسفة الأخلاقيين"، فكانوا يدعون إلى تبني الإنسانية والعدل، بيد أن بيندا يقول إنه بسبب "المثقفين" ارتكبت البشرية أفعالَ الشر قرابة ألفي عام. وعلى الرغم من حبهم للخير، فإنَّ هذا التناقض مثلما يصفه هو فخر البشرية، إذ رسم الإنسان عبره طريق الحضارة.
ومن خلال تفكيكه عزم "المثقف المعاصر" على تقمص روح المواطن واستخدامها وتوظيفها، صار يتباهى بتلك الروح. لذا، فإن المثقفين الذين يمارسون اليوم المشاعر السياسية، ينشغلون بأهدافهم الذاتية، ويرفضون البراهين، وينغمسون في الأفكار الجامدة، وهو ما يفسر مشاركة المثقف المعاصر "الإنسان الدنيوي" في الميادين العامة، وهو نزولٌ لا بد من أن يصيبهُ بالعجز عن تأدية مهامه.
على سبيل المثال، عندما ذهب اسبينوزا معرضاً حياته للخطر، وكتب على أبواب منازل من قتل إخوة (دو ويت) عبارة "قتلة وحشيون"، وعندما ناضل فولتير من أجل عائلة كالاس، هي مواقف يستعيدها الكاتب كأمثلة على تأدية المثقف مهمته على أكمل وجه، ويصفهم بأنهم رهبان في محراب العدالة المجردة، إذ لم تمس نفوسهم أغراض دنيوية.
ويشير بيندا إلى معيار يكشف عما إذا كان المثقف يمارس مهامه في العلن مثلما يفعل وفق ما يجب عليه أن يكون، وهذا المعيار هو: "أن ينبذه الدنيويون الذين تتوقف مصالحهم بسبب المثقفين مثل سقراط والمسيح كنموذج"، ويخلص إلى القول إن المثقف الذي يمدحه الدنيوي خائن لرسالته.
ويفكك الكتاب ممارسة "كراهية الغرباء" من قبل المثقفين وتأثيرهم في مجتمعاتهم؛ إذ عد بيندا تلك العصبية خيانة للواجب الإنساني ولشعائر العدل والحق في مواجهة الشعوب التي تمارس الظلم، فالمثقفون من أمثال المفكرين الألمان قبل سنوات أعلنوا بشكل منهجي سقوط جميع الحضارات إلا تلك التي تنتمي إليهم. أما المثقفون الفرنسيون، فقد احترموا فقط الوطنيين، والصادق منهم كان من يوافق على التحيز والتعصب، وهو ما يفسَّر بالجهل إزاء الحق والعدالة وبالقيم التي ارتبطت بالمصلحة الفردية.
إقرأ أيضاً: نغوجي واثيونغو: الاستعمار الثقافي وسيلة الإخضاع الروحي
أما في ما يخص الشعر، فيورد الكتاب أمثلة على تكريس الشعراء موهبتهم الشعرية في خدمة المشاعر السياسية، وهو النوع الأدبي الذي أطلق عليه اسم "الفلسفة الغنائية"، إذ بدأ بتحريك العواطف، ثم تكرّس لخدمة المشاعر العرقية والقومية.
وقد استخدمه المثقفون لإثارة المشاعر السياسية لدى الدنيويين، وعلى الأقل لدى فئة القراء ومن يعدون أنفسهم مثقفين، فيما ظهر "مثقفون" خلطوا بين أعمالهم والمشاعر السياسية. وقد عد بيندا ذلك انحطاطاً واضحاً، ولا سيما لدى الروائيين والكتّاب المسرحيين، إذ انحرف دورهم من جراء خضوعهم للأغراض السياسية، ليس لنشرهم أفكاراً "متحيزة" في أعمالهم الروائية، بل لأنهم جعلوا أبطالهم يشعرون ويتصرفون وفق المشاعر التي يراها المؤلف بدلاً من الفهم الحقيقي للطبيعة الإنسانية، فظهر لديهم الزعيم السياسي كصاحب الفضيلة المطلقة. أما الدناءة، فجُعلت من نصيب البرجوازيين، وهذا الفعل يحمل في طياته حدثاً خطيراً، ذلك أنه يجرد القارئ من أبرز الآثار الحضارية للأعمال الفنية، أي أنه يفرض على المتفرج سبر أغوار النفس عبر تصوير النفس البشرية بصورة قسرية فيشعر بأنها حقيقية.
ويبرز بيندا نوعاً آخر من المثقفين: وهم أولئك الذين يتجاوزون نزاهة العقل ويفعّلون تأثيرهم في الدنيويين بسبب منزلتهم المرتبطة بوظائفهم، ومنهم المؤرخون الذين استخدموا التاريخ لدعم التحزب والمشاعر القومية.
وينتقد إصرار المثقف المعاصر على إضافة نزعة التحيز إلى السرد التاريخي، الأمر الذي يحط من مهمته، وفي الوقت نفسه يكبح مشاعر الدنيويين من خلال إثارة مشاعرهم ببراعة، وتجرديهم من التعطش للحقيقة ومنعهم من الاستمتاع بها، فضلاً عن دفعهم إلى خطاب مختلف ومغاير للحقيقة، وهو خطاب يمنعهم من التحرر من المشاعر السياسية الصارمة.
ومما لا شك فيه أن انتقاد بيندا لحركة "المثقفين" الذين يحثون الناس على الغلو والتفاخر، هو لتفكيك قيامهم بتحريض شعوبهم على الشعور بكل ما يميزها عن غيرها من الأمم، وهم بذلك يحرضون على التعالي، ليس فقط من ناحية اللغة أو الفن، بل من جهة الملابس والطعام وغيرها.
هكذا، وضع بيندا يده على مشكلة تحول المفاهيم التي واجهها المثقف، ووضعهُ أمام موقفي: إما أن يعطي موافقته على الواقعية المادية النفعية ويخون مثاليته، وإما يتمسك بالحق ويواجه العقوبة الصارمة التي قد تصل حد الاعتقال أو الموت.