سيد القصر... رواية المقاومة وأفعالها وأبطالها
رواية "سيد القصر" ليست سيرة مقاوم فذ مثل (أبو علي) فرحات، وإنما هي سيرة لتفاصيل حياة قرى الجنوب اللبناني، وأهلها المقاومين خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم.
-
سيد القصر... رواية المقاومة وأفعالها وأبطالها
بلى،
كان لا بد للجغرافيا الجديدة في الجنوب اللبناني من أن تتزيّا بأسماء جديدة وأفعال جديدة، فمثلما صارت صفة الشعر الوازن هي الروح المقاومة، صارت الآداب كلها تدور حول أفعال المقاومة، لأن المقاومة غدت حديث البيوت، وحياة الناس، وسؤال الصغير والكبير، بل غدت الحلم الأكبر للخلاص المشتهى من ويلات الاحتلال الإسرائيلي في عقد السبعينيات من القرن العشرين المنصرم، فالأمكنة تجددت لأنها صارت علامات للبطولة، وبيوتاً أخرى للمقاومين، ومرويات يقصها العارفون بأفعال أهلها في المدارس، والمجالس في آن، فدخلت أسماء الأمكنة، في متون الشعر والسرد، ودارت حولها معاني المواجهة والثبات في وجه العدو الإسرائيلي، الذي جعل الظلم صورة له في عربدات دموية شملت القرى الجنوبية، والمدن، والأقاليم اللبنانية، ولم تنجُ من هذا الظلم الباطش المشافي والمدارس والمروج والحقول ودور العبادة، لهذا غيرت الحياة دورتها الدموية وضبطتها وفق ساعة المقاومة، ولكم كانت هذه الساعة دقيقة وصارمة لأنها شملت زمن الناس، وحياتهم، وتفكيرهم، ودراستهم، وأحلامهم.
أقول هذا.. وقد فرغت من قراءة الرواية التي كتبها الكاتب اللبناني سديف حمادة تحت عنوان "سيد القصر" وهي رواية مهمومة بفن "السيرة الغيرية" أي كتابة سيرة الآخرين لما تركوه من أثر عظيم في حياة الناس. إنها رواية تتقمص سيرة حياة البطل اللبناني المقاوم حسن علي فرحات (أبو علي) الذي نذر حياته منذ مطلع شبابه للمقاومة، فقرأ في المدارس، وخالط المثقفين وحاورهم من أجل أن يعرف أكثر وأكثر عن معاني المقاومة، ودرجة حضورها، قيمة ومآلاً ، في الدنيا والآخرة، وقرأ كتب علماء جبل عامل، فروّى روحه بالكلام الطيب، والأثر الجليل، لتصير الحياة كتاباً تتجاور فيه خلاصات الفكر والعقل والعمل، ولتصير سير أهل الزهد والفضيلة والسلوكيات النبيلة دروباً يمشيها طلاب الحق.
ها هو سديف حمادة يفتتح الرواية بحوار داخلي يدور بين بطل الرواية حسن علي فرحات (أبو علي) وزوجته التي يطلب منها، أن تقر عيناً، وتهدأ بالاً في أثناء غيابه لأيام فقط، وألا تقلق عليه، وأن أهله وأهلها على مقربة منها، وبمقدورها الذهاب إليهم إن شعرت بالوحشة، فتسأله إن كان سيسافر إلى خارج لبنان، فيقول لها: لا، ولا يصارحها باسم المكان الذي سيذهب إليه خوفاً على المكان، وطلباً لتعلم ثقافة الأسرار وتمجيدها والعمل بمقتضياتها، وهكذا يودعها بقولها: كوني مطمئنة فمسعاي مسعى خير، وتودعه بقولها: حفظك الله أنّى توجهت وذهبت وقررت.
يذهب (أبو علي) إلى المكان الذي حدد له، والموصوف بعلامات وإشارات ودلالات، ولم يكن المكان سوى علوة تلال تحيط بقرية (مليتا) وهي ليست ببعيدة عن قريته (اللويزة)، وهناك، في محيط العلوة يلتقي فدائياً فلسطينياً، سيكون هو مرشده ورفيقه الذي سيعلمه كيف يتعامل مع الأسلحة الفردية، بعد أن يعرف أسرارها الدقيقة، وكيف يمحو وحشة المكان وغربته داخل أدغال الأشجار، ومغارات التلال وبطون الأودية، وقد صارت البندقية بين يديه، مثلما صار المسدس رفيقة في اليقظة والنوم، ها هو في وقفة تأمل، يرى جسده، وقد تزيّا بلباس الفوتيك الأخضر، المشتق من نباتات التلال والأودية، فتشعر نفسه بالكرامة والعزة.
ستة أيام قضاها (أبوعلي) ساعات شغف من اليقظة الوطنية، في التدريب، والحوار مع رفاقه، وفي الاستماع إلى محاضرات في التاريخ، والفكر، والعقيدة، فأحسّ بالامتلاء الروحي، وبأن الحياة فرصة وحيدة للعيش بكرامة، من دون مذلة أو هوان، وليس من مذلة وهوان في تلك الآونة، سوى غطرسة العدو الإسرائيلي الذي ينتظر مواسم حصيد القمح فيغير بطائراته ليحرق الحقول والبيادر، وينتظر اصطفاف تلاميذ المدارس في الصباحات لكي يقتلهم في باحات المدارس وهم ينشدون النشيد الوطني، وينتظر ازدحام أسواق الحسبة في القرى والبلدات الجنوبية، كي يغير على الناس، وينتظر ظلمة الليل ليقصف البيوت ويبدد طمأنينة أهلها، وينتظر خروج السيارات لتسير في الطرقات فيدمرها ويحرقها؛ (أبو علي) وحين امتلك المعرفة بالسلاح، وامتلأت روحه بالمعرفة الحقة بتاريخ العدو الإسرائيلي، وأدرك مراميه وغاياته، وعرف أن الكتب الماجدة تنسب إلى (نهج البلاغة)، وأن الحياة تقاس بالمواقف المنادية بالعزة والكرامة، صرخ صرخة الأجداد (هيهات منا الذلة). وحين عاد إلى البيت لم تسأله زوجته أين كان؟ لأنها وبحسها الجنوبي، عرفت أين كان، فثيابه الجديدة، ومسدسه، وسمرته، ووجهه المضيء... كلها كانت علامات دلتها وأخبرتها، أين كان، وماذا فعل، وأي نهج اختار، وفي أي طريق سيسير!
سديف حمادة يتتبع في روايته/سيد القصر/ (أبو علي) في كل تفصيل، وقول، وموقف، من أجل أن يرسم للقارئ الخطوط البيانية لحياة رجل سيصير اسمه علامة ذهبية للمقاومة، وستصير مواقفه دروساً للعبرة والتعلم، و ستصير الأمكنة التي عاش فيها، ومنها المغارة/ (القصر) ، ستصير مقصداً لأجيال المقاومة ليعرفوا أي مغايرة حدثت ، فشملت الجنوب اللبناني، فرضي بها المقاومون، على الرغم من أكلافها الثقيلة، نوماً في المغارات، وبين أجمات الشوك، والصخور، والغابات، انتظاراً لساعات المواجهة مع العدو الإسرائيلي، ورصداً لتحرك قواته، وحفراً لحفائر الألغام التي ستصير مقابر لجنوده وآلياته، أو قل ستصير علامات الصمود واليقظة لكل صغير وكبير في الجنوب اللبناني، ولكل مكان سواء أكان في مرتفع أم في منخفض أم في درب ترابي أم في طريق مسفلت.
سديف حمادة وفي هذه السيرة "سيد القصر" يقف عند حياة (أبو علي) ورفاقه الـ (17) مقاوماً، وهم يحرسون إقليم التفاح وقراه، ومدارسه مثلما يحرسون البيوت، ودور العبادة والطرق، والأحراج، وعيون الماء، وماشية القرى وقطعانها، ومزروعاتها، فيقف عند الأحاديث التي تدور، ليل نهار، عن العمليات والكمائن التي قام بها هؤلاء الرجال، على الرغم من قلة عددهم، وبذلك صارت لإقليم التفاح أخباره التي تتحدث عن مقاومة المحتل الإسرائيلي، وعن جسار المقاومين، وحسن تخطيطهم، وتنفيذهم المهام التي جعلت العدو الإسرائيلي يعيش حالات الارتباك والهلع وهو ينتقل من مكان إلى آخر، لأن هؤلاء المقاومين قضّوا مضجعه ليلاً، وهددوا طمأنينته نهاراً، فراحت سياراتهم ومجنزراتهم تحترق وتُباد حتى صارت أماكن حرقها وتدميرها علامات وشواهد على أفعال المقاومة الجبارة، وراح عديد قتلاهم وجرحاهم يتزايد من يوم إلى آخر.
سديف حمادة، صوّر لنا، وبعين موشورية، حرب الكمائن التي لجأ إليها (أبو علي) فرحات ورفاقه المقاومون كطريقة مواجهة للعدو الإسرائيلي، وهي كمائن مدروسة ومعدة بإتقان وانضباط صارمين، كمائن لسيارات الإسرائيليين ومصفحاتهم في أعالي التلال، وداخل الأودية، ووسط الأحراج، وقرب القرى، وقد نجحت هذه الكمائن في اصطياد الإسرائيليين وإعادتهم إلى خطوط العدو الخلفية قتلى وجرحى ليرووا القصص والأخبار عمّا حدث لهم، وكيف حدث، مثلما صار الحديث يدور في القرى والبيوت الجنوبية عن كمائن المقاومة بوصفها نهجاً غدا أسلوباً للمقاومة اللبنانية فوق جميع الأراضي اللبنانية لأنه كان هو النهج الأنجع لمواجهة فائض القوة الإسرائيلية.
ويحصي سديف حمادة ويصف وجوهاً وصوراً عدة للخسائر الإسرائيلية خلال سنوات العمل المقاوم، مثلما يحصي انحسار عديد الخونة والعملاء الذين التحقوا بمعسكرات (سعد حداد ولحد من بعده) وقد فروا هاربين من تلك المعسكرات بعد أن عرفوا أنهم مضوا إلى الضفة/ الخطيئة، الضفة/ العار والندم، ويقرأ سديف حمادة في الصحف الصادرة في بيروت، وما تكتبه عن أفعال المقاومة اللبنانية في الجنوب، وما تذكره من أرقام عن عديد القتلى والجرحى في صفوف العدو الإسرائيلي، وما يقوله المراسلون الحربيون عن شجاعة المقاومين ومهارتهم في إعداد الكمائن التي أرعبت قوات الاحتلال الإسرائيلي.
زمن الرواية "سيد القصر" التي يكتبها سديف حمادة، هو زمن المقاومة اللبنانية الذي شمل جغرافيات عدة من لبنان، لكن أكثرها حضوراً كانت جغرافية الجنوب، وبفعل هذه المقاومة تغيرت خطط إسرائيلية كثيرة، وسياسات إسرائيلية كثيرة أيضاً، فقد صار الجنوب اللبناني جحيماً نارياً ما استطاع الإسرائيليون تحمل ويلاته، لذلك فروا هاربين منهزمين مدحورين أذلاء في عام 2000.
رواية "سيد القصر" ليست سيرة مقاوم فذ مثل (أبو علي) فرحات، وإنما هي سيرة لتفاصيل حياة قرى الجنوب اللبناني، وأهلها المقاومين خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم، هؤلاء الذين اشتقوا دربهم من سيرة الأجداد الذين كتبوا تاريخ جبل عامل بالصبر، والبناء، والعقيدة، فقالوا توكيداً: للقرى أهلها الذين يدافعون عنها، فكانت مقاومة الأهالي للعدو الإسرائيلي، مقاومة مستمرة للظلم الذي عرفوه سابقاً من قبل الإقطاعيين وأعوانهم، ويعرفونه اليوم سطوة للقنابل والصواريخ الإسرائيلية، الحارقة والمدمّرة للعمران، لذلك تبارت القرى في الجنوب اللبناني وتنافست للقيام بأفعال المقاومة ضد عدو غاشم عنصري أراد إخضاع قراهم وإذلالهم، لكن هيهات، لأن ذلك لم يتم في حضور من عرفوا تاريخ جبل عامل، وعقيدة أهله وسكانه، ومن آمنوا يقيناً بأن الحياة، في ساعة الظلم، مقاومة من أجل إدامة حضور الكرامة والعزة... للبيت، والابن، والابنة، والمدرسة، ودار العبادة، والكتب العوالي.